ليس هناك في الترجمات الأدبية، ما هو أصعب من نقل الشعر من لغة إلى أخرى. لا شيء أصعب من نقل تشكيل لغوي لشاعر ما عن حالة شعورية معينة، خصوصاً إذا تعذر إيجاد مرادفات لغوية شبيهة لها، أو إذا لم تسعفها معاجم المعاني المنقولة إليها. تعددت الترجمات العربية لقصيدة «الأرض الخراب» لت. س. إليوت. وقد احتاجت تكراراً في المحاولة مراتِ عدة، إذ لم يسبق لشاعر أن ترجمها باستثناء الترجمة الأولى على يد أدونيس ويوسف الخال عام 1958.

لعل ترجمة توفيق صايغ كان يمكن أن تكون الأولى لو تيسر نشرها وقتها، أي قبل عقود من أن تصدرها «منشورات الجمل» عام 2016 في نسخة «الأرض الخراب/ مع التفسيرات النقدية الجديدة»، مرفقة بمقدمة ودراسة نقديّة للشاعر والباحث العراقي محمد مظلوم. لقد حال موت الشاعر الفلسطيني المبكر دون الكشف عن أولى الترجمات غير المنشورة وأكثرها جمالاً لأنه لا يمكن إلا لشاعر أن يبلغ روح النص المترجم.
لعلّ الظهور المتأخر لترجمة توفيق صايغ يوازي في أهميته ظهور النسخة الأصلية من قصيدة إليوت التي ضاعت بدورها لفترة
طويلة.
وذلك لما في الترجمة من قراءة جديدة لعوالم القصيدة الغامضة. ما كان لتغيرات المناهج النقدية في الغرب والابتكارات التحديثية في التفكيك والتحليل والغوص في معانيها التي تناولت «الأرض الخراب» أن تجد صداها في القراءات العربية. من هنا تأتي أهمية هذه الترجمة المجهولة ودورها في الحفاظ على البناء الخاص لجملة إليوت، والإمساك بكثافتها من دون تمدد زائد أو استفاضة تخرج عن السياق في الجملة الأصلية.
يدرس محمد مظلوم في «الزمن التائه والمكان الأعمى» قدرة نص إليوت على مجاراة المعاصرة والعصور القديمة كأول إرهاصات الحداثة، حيث الكثافة الزمنية تجمع بين التداخل الآني مع اللحظة الممتدة عبر الماضي باشتباك زمني متناوب التأثير. وعبر تناص مع عوالم أوفيد إلى أجواء دانتي إلى نصوص من الكتاب المقدس نفسه، ينعكس عالم الفوضى الذي يحيط بالإنسان، والموت الروحي وتجسيد خراب العالم القديم. وفي «خريطة الأرض المقفرة» يتقصى معالم الخراب في القصيدة التي تصور أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى متماهية مع واقعه الشخصي. لذا جاءت متداخلة بين الأسطوري الوثني والديني اللاهوتي واليومي الحياتي، وتناوب الجفاف والعقم في مزاوجة لأحوال الإنسان والطبيعة.
في مقطع «دفن الموتى»، يستلهم إليوت الطقوس الجنائزية والصلاة الكنسية، إذ يعيد صياغة فهمه للفصول عبر هجاء للربيع الذي يحمّله معاني مزدوجة بين الموت والانبعاث، كما ينتقل إلى مشهد أوراق التاروت لما فيه من انتقال إلى القدرية التي تنتعش إبان الحروب والكوارث، معبرة عن حيرة الإنسان وقلقه تجاه مصيره. ثمة استدعاء لأسطورة الغريق الفينيقي في مقطع «الموت عن طريق الماء» التي هي في الوقت نفسه مرثية لصديقه الغريق، وتبدو معاكسة للقص القرآني «وجعلنا من الماء كل شيء حي» وللإنجيل: «لو كنت تعلمين عطية الله، ومن هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب، لطلبت أنت منه فأعطاك ماءً حياً». هنا تناظر معكوس حيث الماء مدفن مائي للآلهة، هو مصدر لموت رفيقه وحبيبه كصورة معاكسة للانبعاث.
كشفت علاقته بصديقه عن ميول مثلية تظهر في تضمين رمزي لأسطورة السوسن التي ترتبط زهرتها أسطورياً بقصة الحب المثلي. تقول الأسطورة إن «أبولو عشق فتى وسيماً، ونازعه زفيروس، ولكن الفتى لم يعره اهتماماً، وعندما كان أبولو يلعب مع الفتى لعبة رمي القرص، تدخل زفيروس إله الريح في اتجاه الريح وانقلب القرص إلى رأس الفتى فقتله، فحلف أبولو ليمنحه الخلود قائلاً: من دمك ستخرج زهرة السوسن». يُعرف عن غادة السوسن أنها صوت المذكر، نزعة اشتهاء المثيل كنزعة مشفرة، تتوجب جهداً بالغاً في الكشف عن مضامينها. من هنا تأتي أهمية الإشارة إلى حياة إليوت الشخصية، بما فيها هويته الجنسية التي كانت ظلالها تنعكس على أعماله الحافلة بالقضايا الكبيرة، وذلك لضرورة لحظ الشخصي منها والنفسي الدقيق، وملاحظة النزعة «الكويرية» التي تحطم التناقض والغموض الذي يميز ثنائيات الذكر والأُنثى المتعارضة، والتي تنسجم مع فكره بهوية متعددة أو جمعية إلى حد ما.
القصيدة مرفقة بمقدمة ودراسة نقديّة لمحمد مظلوم


ربما تكون هذه المسألة التي أغفلها غالبية النقاد نافذة لإعادة قراءته باحتمال جديد، يلقي بالضوء على الجذور النفسية للقصيدة. إذ إن هذه النزعة تشير إلى قلق الهوية الجنسية عنده، وربما كانت هذه مرحلة فاصلة في حياته غير موسومة بها.
إذا كان باختين قد فتح الباب لتقنية الأصوات المتعددة، أو ما سمي بالبوليفونية في النصوص الروائية، فإن الأمر ينسحب كذلك على النصوص الشعرية. «الأرض الخراب» هي كرنفال احتفالي لأصوات الموتى في كون يعيش خرابه الروحي والمادي. وإن كانت برمتها إدانة لزمن ما بعد الحرب، إلا أنها لا تعبر عن تذمر شخصي أو مناجاة للآخر، بل هي نوع من تعدد الأصوات، تتأرجح ما بين شخوص أسطورية؛ وأبطال أعمال أدبية؛ ولا يخلو الأمر من أشخاص واقعيين. الأصوات غير البشرية في قصيدة إليوت مثل صوت الريح والماء مع جلجلة الأجراس، تتداخل مع الزمن وامتداداته المجازية البعيدة باعتبارها إشارة مبكرة للزمن الفني داخل الزمن الفيزيائي ضمن تناوب للأسطورة، والتاريخ، والواقع، والنصوص الدينية، والأعمال الأدبية الأخرى وتفاصيل الحياة اليومية للبشر ما بعد الحرب العالمية الأولى. يقول إليوت إن العمل الفني لا يمكن تفسيره، إنما يمكن توضيح الحقائق التاريخية المتعلقة بالموضوع. لعل أبرز ما يميز هذه الترجمة هو توثيقها لنصوصه كشواهد على زمانها، والاطلاع على نواحٍ نفسية في شخصيته من خلال لحظ التدفق الشعوري الدقيق والمعقد في جل أعماله، لتبقى جذوة الكشف والاكتشاف دائمة التوقد على رغم عبثية الوصول لننتهي عند قوله: «لا يمكننا أن نوقف استكشافاتنا/ وفي نهاية بحثنا كله/ سيكون الوصول إلى حيث بدأنا/ ونعرف المكان لأول مرة».