يُغيِّر الباحث السوري أحمد ريّس في كتابه «الوجه الآخر للحرية والديمقراطية في فكر فلاسفة الغرب» (الهيئة العامة السورية للكتاب -2017) زاوية النظر. ينطلق من «الآخَر» باعتباره دريئة تُصوَّب عليها دائماً سِهام التَّنظير الفكري التي «تجعل من الاحتلال تحريراً والقمع حرية والنهب ديمقراطية»، عبر طمس الثقافة الإنسانية، وترسيخ العبودية على مر الأزمان، وإنتاج مثقفي السُّلطان السياسي والاقتصادي، وخَدَمُ الرجعية باختلاف أشكالهم عبر التاريخ.
لعل التَّتبُّع الحثيث لآراء ومؤلفات المفكرين والسياسيين والاقتصاديين وحتى بعض المسرحيين ابتداءً من عصر اليونان وليس انتهاءً بنهاية التاريخ وصدام الحضارات واقتصاد السوق الحر... جعل ريِّس يؤكد أن أولئك جميعهم، قديماً وحديثاً، اعتمدوا المفهوم السلبي للحرية الفردية، من خلال فلسفة أنا الذات المؤطرة بالتقسيم الطبقي.

هكذا، خصخصوا الحرية والسيادة والسلطة وسنّ القوانين للطبقة العليا، وفرزوا الديمقراطية لأصحاب الأموال وأمراء الحرب باستخدام الحيل السياسية والانتخابات الصورية، بينما خصصوا العبودية والأعمال الدنيوية للطبقة الدنيا، استناداً إلى مقولة أن الطبيعة لا تُقرّ بالمساواة! وبالاتكاء على التقسيم العنصري اللاهوتي، باتت الحرية والديمقراطية والسيادة لـ «شعب الله المختار»، في حين أن العبودية والرضوخ والخنوع والاستغلال للباقين.
يُبين الباحث أن تمجيد الطبقة الأرستقراطية والأوليغارشية ونظام الأبارتايد، لم يكن وليد اللحظة، أو السنوات الأخيرة، فأدلجة المجتمعات وفق دراسته بدأت قبل الميلاد منذ الديمقراطية الأثينية التي حملت في طياتها مفهوم التمييزيَن الطبقي والعنصري، ودعمت حكم الطغاة والنُّخَب الغنية والعسكر، بإسنادٍ فكري قدَّمه كل من سقراط وأفلاطون وأرسطو وهيراقليطس وزينوفون. هؤلاء حاربوا الديمقراطية الشعبية، وأرسوا إرث العبودية، وبرّروا استعمار الشعوب واستعبادها. وعلى منوالهم نهج مفكرو أوروبا وأميركا من ميكيافيللي ومارتن لوثر وجان بودان وتوماس هوبز ولوك وسميث ومونتسكيو... الذين استمدوا أفكارهم من الموروث التاريخ الإغريقي وسطوة الإيديولوجيا الميتافيزيقية والمادية، وأدلجوا ديمقراطية النخبة الليبرالية الذئبية واقتصاد قراصنة السوق، ورسّخوا حرية المُرابين وزعماء المؤسسات والمنظمات المافيوية الاحتكارية للسيطرة على الشعوب بالقوة والعنف والدمار الشامل والإرهاب الدولي المنظم. كما برروا النزعة العنصرية مُجسِّدين السلطة البرجوازية الحديدية في مجتمع المدينة المستقل عن الدولة. المفكرون والفلاسفة والاقتصاديون والسياسيون الليبراليون في العصر الحديث، نهجوا أيضاً ـــ كما يرى ريِّس ـــ منهج فلاسفة عصر النهضة، وطوروه، وأسسوا الليبرالية الجديدة المتوحشة، وجعلوا الديمقراطية الليبرالية حكراً على النخبة المُرابية وأصحاب الشركات العملاقة، وعولَموا الاقتصاد الربوي واقتصاد السوق العالمي، وشروط البنك الدولي. ثم عولموا آليات الدمار، وخصخصوا المافيات الارتزاقية وجيوش حلف الناتو لتفكيك وحدة الشعوب وتدمير دول التحرر العالمية والعربية والسيطرة على ثرواتها وأسواقها بالقوة. بعد ذلك، جاء جاك دريدا (1930 ــ 2004) ليؤدلج المشروع الصهيوني لسيادة «شعب الله المختار| وتكوين دولة لاعبي القمار العالمية، وميشيل فوكو (1926 ـــ 1984) الذي أعلن صيرورة العبودية وتقويض ثنائية الفكر الديني والإنساني في قالب اللذة السادية، وهنري كيسنجر وجابوتسكي وبن غوريون وبيغين وريغان وجورج بوش وريتشارد بيرل ومادلين أولبرايت وديفيد كيمحي وبرنارد هنري ليفي الذين نظموا المافيات الإرهابية، وأعلنوا سياسة الأرض المحروقة، ومشروع الدولة العبرية للسيطرة على منطقة الشرق الأوسط.

روسو، وماركس وغرامشي نماذج إيجابية في الفكر الإنساني


هذا المشروع وغيره كان لا بد له من نظريات تحميه وعقائد يستند إليها، ما أنتج مجموعة من المثقفين والمُنظِّرين الانتهازيين لتغليف الفكر بمفاهيم تحمل ازدواجية المعايير، بغية تزوير الحقائق وتضليل العقول وترسيخ الجهل السياسي والثقافي والاقتصادي، وتبرير جرائم الأقوياء وحقهم في إخضاع الشعوب ضمن دائرة العبودية المُتجدِّدة والتبعية المُطلَقة لاقتصاد السوق، كي يبقى الأنا الرأسمالي قوياً مُسيطراً، وليبقى الآخر تابعاً مُتخلّفاً إنتاجياً وثقافياً حسب إيديولوجية ثقافة القوة والفلسفة المادية، وحسب النظرية النيوليبرالية والنظرية النقدوية ومدرسة شيكاغو وآليات وول ستريت.
الدراسة التفصيلية للموروث التاريخي جعلت الباحث السوري يضع الهوية الثقافية طرفاً أساسياً في الصراع الذي احتدم حين الانتقال من الرأسمالية العالمية إلى اقتصاد السوق الحر. وفي الطرف الآخر تتمركز المادية العدمية، إذ إن آليات النظام الاقتصادي العولمي وشبكاته وتنظيماته المتعددة مَوَّهَت مفهوم علاقات السيطرة التي أصبحت متداخلة بمفاهيم وهمية، وذرائع تضليلية، تحمل معنى الازدواجية، مثل الحفاظ على الأمن الدولي، نشر الديمقراطية، حقوق الإنسان، حماية الأقليات، وغيرها. ولتحقيق ذلك التَّمويه، كان لا بُدّ من مجموعة من الأضاليل والأكاذيب التي عملت على تفريغ عقلنة الثقافة من محتواها الإنساني والحضاري، وزراعة الهشاشة والضياع بدلاً منها، بغية التأسيس لعملية الخضوع التَّام لثقافة القوة المادية التفكيكية، وتالياً تأسيس صراع الحضارات، وتكوين عالم الفوضى واللا نظام وضياع الهوية وقبول العدمية والانصياع لقنوات الليبرالية، وبالتالي حتمية تنصيب دولة المُرابين العليا العولمية لقيادة العالم حسب مشروع زبيغنيو بريجنسكي صاحب كتاب «الاختيار.. الهيمنة أم السيطرة؟»، وأحد مؤسسي مشروع القرن الأميركي ومشروع الشرق الأوسط الكبير والجديد، ومشروع الليبرالية الجديدة المتوحشة، إلى جانب هنري كيسنجر وميلتون فريدمان ورونالد ريغان وجوزيف ليبرمان وصولاً إلى دبليو جورج بوش وروبرت غيتس وكونداليزا رايس وديك تشيني ونتنياهو وشارون «الذئاب بالقبعات الفاخرة».
يرصد المؤلِّف خَيْط السُّبحة الفكري النَّاظم لكل تلك التجاوزات الإنسانية، فيقول: «التاريخ يُعيد نفسه مراراً فإمبراطورية الإسكندر المقدوني استعمرت وسفكت دماء شعوب الشرق الأوسط (دول شمال أفريقيا وبلاد الشام وبلاد الرافدين وإيران وأفغانستان) بتوجيه وتنظير أرسطو، والإمبراطورية الرومانية والبيزنطية احتلت، واستعبدت شعوب الشرق الأوسط بتشجيع فيرجيل القائل «أنت يا روما عليك حكم الشعوب». الامبراطوريات الأوروبية أيضاً استعمرت وحرقت وأبادت شعوب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية بأباطيل المستشرقين والمفكرين (شاتوبريان ورينان ولورانس وتوينبي، ومارتن لوثر وجون لوك وآدم سميث... ونيتشه). امبراطورية القرن الأميركي بعد الحرب العالمية الثانية، هيمنت على دول حلف الناتو، وشرعت في تدمير دول العالم الثالث التحررية للسيطرة على ثرواتها وأسواقها ومنابع البترول واليورانيوم بالقوة. وأباطرة أميركا ودول الناتو زرعوا الكيان الصهيوني في فلسطين ودعموه في حروبه وجرائمه، ووضعوا المخططات لتدمير وإخضاع دول التحرر العالمية والعربية، ثم ساندوا الأنظمة الدكتاتورية والاستبدادية، وأنشأوا المنظمات الإرهابية التي تقوم على ترويج الموروث المتوحش بأسطورة الحنين إلى الماضي وسطوة الإيديولوجيا الميتافيزيقية لتدمير الأوطان بالحروب اللانمطية التي أشعلوها أهلياً وإقليمياً بزعامة الإخوان والوهابية والقوى الرجعية والمرتزقة. وبرعاية صهيونية أميركية، حبكوا أيضاً المؤامرات ومشروع الشرق الأوسط ومشروع القرن الأميركي، وفرضوا الحصار والدمار والضربات الاستباقية والعدوان، وسيطروا على منابع البترول، وارتكبوا المجازر الوحشية والإبادة الجماعية بغطاء من الأمم المتحدة ومجلس الأمن.
التطور كما يراه ريِّس، كان متمحوراً في نزعة الأنا للربح المادي الناتج عن تجارة السلاح والسلع الاستهلاكية العدمية، وهذا يعني بالضرورة حتمية الحروب والدمار وشقاء الآخر، وحتمية إعدام الإنسانية والحرية والديمقراطية والحقوق ضمن مشروع الثقافة الغربية المادية، وسكونية العقل الذي أوقف التطور التاريخي للإنسانية كما أعلنه فرنسيس فوكوياما في كتابه «نهاية التاريخ» عبر انتصار الأنا الليبرالية المادية المتوحشة التي سببت حتمية الشقاء الإنساني، وأوصلت العالم إلى صراع الحضارات الذي تحدَّث عنه مراراً «صموئيل هنتنغتون».
على النقيض من «مؤدلجي الشَّر»، يقف الباحث مع أفكار ثلاثة من النماذج الإيجابية في الفكر الإنساني هم: جان جاك روسو، وكارل ماركس وأنطونيو غرامشي. الأول رأى أن الحرية الإيجابية مقرونة بالقوانين والقيم الإنسانية، والثاني دعا إلى تحرير الإنسان من كل أشكال العبودية والاستغلال، وصولاً إلى الدولة الديمقراطية الاشتراكية التي ستنشأ في أعقاب تلاشي الدولة الرأسمالية بتناقضاتها. والثالث ركز على دور المثقفين العضويين الملتزمين، وعلى الروح الإنسانية والديمقراطية والتعايش واحترام الآخر بدلاً من الصراع الطبقي. برأيه، ينبغي أن يكون الصراع سياسياً وثقافياً لإحداث عملية التغيير، مع إدراكه لجبروت النظام الرأسمالي وسيطرته على الاقتصاد والعسكر والتكنولوجيا، مما يجعل أمر انهياره صعباً للغاية.