ضوء القمر
حين كنت أعالج في كتابي «ذات النحيين: الأمثال الجاهلية بين الطقس والأسطورة» المثل القديم المعروف «أكذب من فاختة» ــ والفاختة طراز من الحمائم ــ محاولاً أن أعرف السبب الميثولوجي الذي أدى إلى اتهام هذا الطائر بالكذب، شوّشني بشدة ربط القواميس والمصادر العربية القديمة جذر «فخت»، الذي منه، الفواخت بالقمر: «الفخت: ضوء القمر أول ما يظهر، وبه سميت الفاختة لشبه لونها بذلك» (الدميري، حياة الحيوان).

ويكرر المرزوقي هذا القول، لكنه يضيف الشمس إلى القمر: «وقال قطرب: الفخت ضوء القمر والشمس... وقال ثعلب: الذي يدل على أن الفخت الضوء لا الظل أنه الفاختة سُميت لفخت القمر، ومنه الصبغ الفاختي» (المرزوقي، الأمكنة والأزمنة). وهكذا فالفاختة من فخت القمر، ومنه أخذ اسم صبغ محدد يدعى الفاختي. وأوشك هذا التشويش أن يجعلني أترك المثل نهائياً. إذ كيف لي بعدما صعد القمر إلى خشبة المسرح، أن أفهم هذا المثل؟ لقد حوّله القمر إلى لغز لا يحل بالنسبة إليّ.
ثم تفطنت، في لحظة ما، إلى أنّ تصحيفاً ما ربما يكون هو الذي أدى إلى ربط الفاختة بالقمر. وتوصلت، من ثم، إلى أن مَن كتب في البداية كتب، في أغلب الظن، أن: «الفخت: صوت القُمْر» أي صوت الحمام القمري. والحمام القمري هو الفواخت ذاتها، والقمرية هي الفاختة. لكن من نقل عنه بعده ذلك، قرأ «القُمْر» على أنها «القَمَر». وبما أنه ليس للقمر صوت يصوّت به، فقد افترض هذا الناسخ أن خطأً قد حصل، وأن الكلمة الأصلية هي «ضوء» لا «صوت». وبذا أقدم على «تصحيح» الجملة، وحوّلها من «صوت القُمْر» إلى «ضوء القَمَر».
وبهذا التصحيح المضاد، ربطت الفاختة بضوء القمر، أو بظله، ربطاً لا فكاك منه. صارا رفيقين من دون أن يكون بينهما أي علاقة. يقول اللسان: «قال ابن بري: ذكر ابن الجَوالِيقيِّ أَن الفاختة مشتقة من الفَخْتِ الذي هو ظِلُّ القَمَر... والفَخْتُ ضَوْءُ القمر أَوَّلَ ما يَبْدُو، وعَمَّ به بعضُهم؛ يقال: جَلَسْنا في الفَخْت... قال بعض أَهل اللغة: الفَخْتُ، لا أَدْرِي اسْمُ ضَوْئه، أَم اسمُ ظُلْمته» (لسان العرب).
وهكذا صارت الفاختة كاذبة لعينة مرتبطة بقمر مضيء أو ظله.

الجلوس

لدينا بيت شعر قيل في الشاعر الفرزذق:
قل للفـرزدق والـسفـاهة كـاسمها
إن كنت تارك ما أمرتك فاجلس
ينسب لمروان بن الحكم أيام كان والياً على المدينة، لكنه ينسب لعبدالله بن الزبير أحياناً. وحين ينسب لمروان، يأتي ضمن قصة تشبه إلى حد بعيد قصة صحيفة طرفة بن العبد (صحيفة المتلمس) التي حملها بيده ليوصلها إلى من تأمره بقتل طرفة. ولست أنوي أن أعرض عليكم القصة، فهي قصة معروفة، ويمكن لمن أراد أن يعثر عليها بسهولة. فمقصدي هو الحديث عن الكلمة الأخيرة في البيت: «فاجلسِ».
فقد فهمت هذه الكلمة بطريقة غريبة كما بدا لي. فهي تعني عند الغالبية الساحقة، بل عند الكل، هضبة نجد في الجزيرة العربية. أي أن البيت يقول: إن كنت تارك أمري فاذهب إلى نجد. مثلاً، يقول اللسان مفسراً كلمة فاجلس: «أَي إئْتِ نَجْداً» (لسان العرب). يضيف البغدادي: «فاجلس، أي: اذهب إلى الجلس؛ بفتح الجيم وسكون اللام، وهو نجد. يقال: جلس الرجل، إذا أتى نجداً» (عبد القادر البغدادي، خزانة الأدب). ويزيد الصاغاني: «وجَلَسَ: إذا أتى نجداً» (الرضى الصاغاني، العباب الزاخر). وقد جرى الوصول إلى هذا الاستنتاج من واقع أن الجلس في اللغة هو نقيض الغور: «الجلس: وهو ما ارتفع، والغور: هو ما انخفض» (الجاحظ، الحيوان).
غير أنه ما من شيء يتيح القول إن البيت يشير إلى نجد. دليل ذلك أن البيت التالي يقول:
ودع المدينة إنها مرهوبة
واقصد لمكة أو لبيت المقدس
وكما نرى، فالبيتان يتحدثان عن المدن المقدسة الثلاث. ومن الصعب حشر هضبة نجد بين هذه المدن. بالتالي، نعتقد أن البيت يقول: إذا لم تنفذ أوامري فعد، أي ارجع، وابحث لك عن مدينة أخرى غير المدينة المنورة للذهاب إليها، سواء كانت هذه المدينة مكة أو القدس.
الخطأ في فهم معنى كلمة «فاجلس» إذاً هو من أعطى هضبة نجد اسم «الجلس» وليس أكثر من ذلك.

خطّ النساء

أريد أن أخرج عن السياسة قليلاً، رغم أن السياسة مسألة حياة وموت في هذه المنطقة من العالم. فقد ورد عند ابن النديم هذا الخبر عن عبد المطلب بن هاشم جد الرسول:
«وكان في خزانة المأمون كتاب بخط عبد المطلب بن هاشم في جلد آدم فيه ذكر حق عبد المطلب بن هاشم من أهل مكة على فلان بن فلان الحميري من أهل وزل صنعا عليه ألف درهم فضة كيلاً بالحديدة، ومتى دعاه بها أجابه، شهد الله والملكان. قال: وكان الخط شبه خط النساء» (الفهرست، ابن النديم).

أما قوله في حديث ابن عمر:
«يتأخّى مناخ رسول الله»، فلا يعني «يَتَحَرَّى ويَقْصِد»، بل يعني: يظلّل
مكان إناخة الرسول

الخبر مهم جداً لو صح بالفعل أنه كان هناك عقد مكتوب بين عبد المطلب والرجل الحميري. لكن مقصدي ليس هذا. كما أن مقصدي أيضاً ليس في جملة: «شهد الله والملكان» الغامضة، لكي أتساءل عن الملكين اللذين قرنا بالله. فمقصدي هو الجملة الغامضة: «وكان الخطّ شبه خطّ النساء». فالذين تعرضوا للجملة، اقترحوا أنه كان هناك خط محدد خاص بالنساء، أو أن خط العقد كان خطاً غير متقن. وأخذا هذا المثل: «يريد أن يقول إن الخط كان غير متقن» (الخط العربي قبل الإسلام، إشراف: الدكتور محمد هشام النعسان). ورأيت في بعض مواقع الإنترنت من يقول: يعني خط شين، أي خط سيئ. وكل هذا استناداً إلى أن خط أيدي النساء يتميز بلين ما، وليس فيه حفر شديد مثل خط الرجال.
لكنني أعتقد أن دخول النساء على الخط، حصل بسبب خطأ في التشكيل لا غير. ذلك أن كلمة النساء هنا يجب أن تقرأ بضم النون وتشديد السين: «النُسّاء»، أي على أنها جمع ناسئ. والناسئ طراز من الكهنة مهمتهم ضبط التوقيت والروزنامة. وقد سموا بذلك أساساً لأنهم ينسأون، أي يزيدون، عشرة أيام أو أحد عشر يوماً على السنة القمرية كي تتطابق مع السنة الشمسية. أي يزيدون شهراً على السنة القمرية كل ثلاث سنين، لكي تظل الأعياد في مواعيدها المعرفة في السنة، إضافة إلى معرفة أوقات الزرع والحصاد. وقد أراد من حدثنا عن العقد أن يقول لنا إنّ هذا العقد عقد أصيل لأن الخط فيه يشبه بالفعل خط هؤلاء الكهنة. بالتالي، فمن المنطقي أن يكون كاتب العقد المذكور كاهناً ناسئاً. فقد كان الكهنة هم من يوثقون العقود ويحَتّرونها. أي أنهم هم الذين يضعون صيغها، ويشهدون عليها، أو يحددون الشهود. عليه، يجب أن نفهم من ذلك أنه كان في الجاهلية خط خاص بهذا الطراز من الكهنة، لا يستعمله غيرهم. ويبدو أنه ظل معروفاً حتى بدايات العصر العباسي.

الأخيّة

ورد في حديث منسوب إلى الرسول ذكر الأخايا: «لا تَجْعَلوا ظهورَكم كأخايا الدوابِّ، يعني في الصلاة، أي لا تُقَوِّسُوها في الصلاة حتى تصير كهذه العُرى» (لسان العرب).
والأخايا، أو الأواخي، جمع أخيّة. وقد افتُرض أن الأخيّة عود، أو حبل، يوضع في الحائط، أو في الأرض، ويجعل مقوساً كالعروة كي تربط به هذه الدواب. أي أنها طراز من وتد:
«الأَخِيَة والأَخِيَّةُ، والآخِيَّة، بالمدّ والتشديد، واحدة الأَواخي: عود يُعَرَّض في الحائط ويُدْفَن طرفاه فيه ويصير وسَطه كالعُروة تُشدّ إليه الدابَّة. وقال ابن السكيت: هو أن يُدْفَن طرفا قِطْعَة من الحبل في الأَرض وفيه عُصَيَّة أو حُجَيْر ويظهر منه مثل عُرْوَةٍ تُشدُّ إليه الدابة. وقيل: هو حَبْل يُدْفن في الأَرض ويَبْرُزُ طَرَفه فيشَدُّ به... وقال أَعرابي لآخر: أَخِّ لي آخِيَّة أَربُط إليها مُهْرِي؛ وإنما تُؤَخَّى الآخِيَّةُ في سُهولةِ الأَرَضِين لأنها أَرْفق بالخَيل من الأَوتاد الناشزة عن الأَرض، وهي أَثبت في الأرض السَّهْلة من الوَتِد... قال أبو عبيد: الأَخِيَّة العُرْوة تُشَدُّ بها الدابة مَثْنِيَّةً في الأرض» (لسان العرب).
غير أننا نشك في أن حديث الرسول يتحدث عن وتد مقوس تربط به الحيوانات. بل نعتقد أنه يتحدث عن ظُلّة مقوسة ما، عن عريش مقوس ما، يسمى «الأخية». يؤيد هذا قول للخليفة عمر بن الخطاب:
«وفي حديث عمر: أَنه قال للعباس [عم الرسول]: أَنت أَخِيَّةُ آباءِ رسول الله، صلى الله عليه وسلم؛ أَراد بالأَخِيَّةِ: البَقِيَّةَ... كأنه أراد: أَنت الذي يُسْتَنَدُ إليه من أَصْل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويُتَمَسَّك به. وقوله في حديث ابن عُمر: يتأَخَّى مُناخَ رسول الله أي يَتَحَرَّى ويَقْصِد» (لسان العرب).
أما تفسير «الأخية» على أنها تعني (بقية) في قول عمر، فتفسير خاطئ في ما نعتقد. وقد جرى الوصول إلى هذا التفسير لأنه حدث تصحيف في كلمة «آباء». فهي في الأصل «إباء» بكسر الهمزة، ومن دون مدّ. والإباء هو القصب. بالتالي، فالخليفة عمر يقول للعباس عم الرسول: «أنت أخيّة إباء» للرسول، أي: أنت مظلة قصب تحمي الرسول من الحرّ.
أما قول ابن عمر: «يتأخّى مناخ رسول الله»، فلا يعني «يَتَحَرَّى ويَقْصِد»، بل يعني: يظلّل مكان إناخة الرسول.
يؤيد هذا حديث نبوي مباشر عن الأخية، يقول:
«مَثَلُ المؤمن والإيمان كمثَل الفَرس في آخِيَّتِه يحول ثم يرجع إلى آخِيَّته، وإن المؤمن يَسْهو ثم يرجع إلى الإيمان» (لسان العرب).
الأخية هنا، بكل تأكيد، ليست وتداً ــ عروة، بل هي ظلة ما، عريش ما، للفرس. فالفرس «يحول»، أي يخرج، من «أخيته»، أي مظلته وعريشه، ثم «يرجع» إليها. هذا الوصف لا يصلح مطلقاً لوتد أو مربط. فالفرس لا يعود إلى مربطه، بل يعود إلى ظلته عند الحرّ.
الأخيّة، إذاً، عريش مقوس ما. وإن كان هناك بالفعل وتد كالعروة يسمى الأخية، كما يقال لنا، فحديثا الرسول أعلاه، إضافة إلى قول عمر، لا يتحدثان عنه، بل عن الظلة ــ العريش.

الماء الذي يُسكر

عرضت لي كلمة في أحد النقوش القديمة بدا لي أنها من جذر «بند»، فمضيت إلى هذا الجذر في القاموس، فوجدت عجباً. وجدت أن الماء «يُسْكِر»:
«البَنْدُ: العَلَمُ الكبيرُ، وحِيَلٌ مُسْتَعْمَلَةٌ، والذي يُسكِرُ من الماءِ» (القاموس المحيط).
أما في اللسان فجاء: «والبَنْدُ الذي يُسكِر من الماء».
ولا مجال للحديث عن خطأ طباعي. فالكلمة مشكلة في القاموسين.
ويبدو لي أن في الأمر تصحيفاً، أي أنه يتعلق بالسَّكْر لا بالشُّكْر. أي يتعلق بالماء الذي حجز عبر سدّ محدد:
«والسَّكْرُ: سَدُّ الشق ومُنْفَجِرِ الماء، والسِّكْرُ: اسم ذلك السِّدادِ الذي يجعل سَدّاً للشق ونحوه» و«سَكِرَ النَّهْرَ يَسْكُرُه سَكْراً: سَدَّ فاه». وفي الحديث: «أَنه قال للمستحاضة لما شكت إليه كثرة الدم: اسْكُرِيه، أَي سُدِّيه بخرقة وشُدِّيه بعضابة، تشبيهاً بِسَكْر الماء، والسَّكْرُ المصدر» (لسان العرب).
عليه، فالبند هو الماء الذي يُسْكَر بفتح الكاف، لا بجرها.
وهذا يعني أن الماء حلال، لمن خاف على دينه.
* شاعر فلسطيني