لا تريد هذه الكتابة أن تكون محاولة في النقد أو التنظير. إنّها بالأحرى محاولة في سيميولوجيا المجتمع عبر شريحة فاعلة هي شريحة المثقفين في زمن ملتبس أشد الالتباس، هو العقد التسعيني.
وفي البدء، لا بدّ من الإشارة الملحة إلى أن الجهد الذي قام به الشاعر حسين علي يونس في إصدار الأعمال الكاملة للشاعر الراحل عبد الأمير جرص (1965- 2003/ الصورة)، هو جهد استثنائي، وهو استثنائي لجهة غياب الوفاء عن ثقافتنا العراقية، والتي صارت واحدة من سماتها تتمثل في الحضور الجسدي تعبيراً عن الحضور الإبداعي. ولكن القاعدة التي أراد حسين علي يونس أن يثبتها في هذا الكتاب، عدا عن وفائه النادر، تتمثل في جملته: «عندما يرحل الشاعر، سيترك نصوصه وهي التي ستقاتل بالنيابة عنه». نعم. هذا صحيح جداً، وأمامنا عشرات الأمثلة العراقية والعربية والأجنبية. عبد الأمير جرص هنا هو المثال.

من هو عبد الأمير جرص؟

إنه الولد الذي لاكته العاصمة، فكسرت ظهره. ومثل أغلب أقرانه عاش حياة صعبة. الحياة نفسها في التسعينيات كانت مستحيلة. ثمة مطارق ضخمة تنهال على رأس الشاعر الناحل: الفقر، السلطة، الجنس، الأحلام الكبيرة. وكان كل واحد من أبناء التسعينيات يحاول أن يجد له معادلاً موضوعياً لكي يستمر في الحياة. وعلى سبيل المثال، فلقد كان المسرح، ودائرة علاقته بالنسبة لي، خروجاً ملائماً من ضغط الواقع. صحيح أنني دفعت أثماناً باهضة بسبب ذلك، وهي أثمان ربما أكون أدفع ثمنها إلى اليوم، ولكن الصحيح أيضاً أنها المحاولة التي حصّنتني إلى حدٍّ كبير من الوقوع في شراك القهر التسعيني.

لقد استند عبد الأمير على شيء من ذلك. اهتمامه بالفن التشكيلي، منحه فرصة مضافة لقراءة الواقع بعين تستطيع أن تميز اللون الرمادي، الذي كان يحيط بالناس، لصالح ألوان الحياة. ولكنها، أي الحياة، لم تكن إلا غواية مخيفة سرعان ما تطيحه أرضاً بين مدٍّ وجزر. كما استند عبد الأمير لموهبته الواضحة، تلك التي لمّت حوله مجموعة من الأصدقاء، أولئك الذين أحاطوه حباً في مراحل مفصلية في حياته. ويبدو ماثلاً أمامي أبرز مثال حين أصدر مجموعته الأولى «قصائد ضد الريح». لقد اجتمع محبوه في أمسية شفافة في بناية «منتدى المسرح» لتوقيع الكتاب، وبيعه، في ظاهرة نادرة، آنذاك، كان الهدف منها أولاً وأخيراً أن يقف المحبون جنباً إلى جنب ضد قتامة الواقع وروح الكراهية السائدة فيه.
كانت بداياتنا في «المركز الثقافي البريطاني» في الوزيرية في بغداد، ومنها انتقلنا إلى «منتدى الأدباء الشباب» في الطالبية. وبينهما مقهى حسن عجمي، كلية الفنون الجميلة في الوزيرية، كلية التربية في الباب المعظم، واتحاد الأدباء. سيرة الأمكنة ضرورية هنا، فهي تلخص قصة العيش في الهامش وإن كنت تظن أنك في المركز تماماً. المركز هو بغداد بكل ما تحمله من ثقل تاريخي. والهامش الذي أقصده أن تكون شريداً في المدينة التي تعيش أوج مراحل انهيارها.
كانت الكتابة الجديدة هي الحلم الذي يدور في رأس مجموعة الشباب الذين أعنيهم. كتابة تريد الفرار من اشتراطات الرقيب، تلك التي تنامت وتضخمت أيام الحرب مع إيران. كل واحد من شعراء التسعينيات كان يرى الفتح الشعري قائماً على يديه. مع ذلك، لم يكن هؤلاء ليتصادموا، كما كان الأمر عليه في الحقب الماضية. كنت شاهداً على أكثر من مجموعة شعرية شبابية تشتغل بصمت واعتداد هائل بالنفس. ربما تسخر هذه المجموعة من شغل مجموعة أخرى. مع ذلك، كان الجميع يشكل لوحة التسعينيات الحزينة، والثائرة أيضاً.
قرأت لأول مرة في أمسية شعرية «محترفة» رفقة عبد الأمير جرص، وخالد مطلك، وحسين علي يونس، وفرج الحطاب، وأحمد الشيخ علي في منتدى الأدباء الشباب في الطالبية. كانت الدعوة من قبل الشاعر جواد الحطاب. هل أسرّكم عن مناسبة الدعوة والأمسية؟ حسن: لقد كانت في الذكرى الأولى لحرب الخليج الثانية، أي عام 1992. من حق القارئ هنا، خاصة إذا كان من اصحاب القلوب الغليضة، أن يؤاخذ هذه المجموعة من الشعراء، وسواها، لأنهم شاركوا في مناسبات من هذا النوع، فأنا شخصياً أنظر إلى الوراء بغضب، لكن العيش في فخاخ التسعينيات كان يتطلب منك أن تحافظ على شرف الكلمة قبل أي شيء آخر. ليس في ذلك بطولة، ولا عار. ليس في ذلك مسبة لأفواج من الطبالين والراقصات، ولا مديح للمعتزلين الذي كانوا يذوون بصمت. إنه توصيف لمحنة العيش تحت المطارق.
مرات ومرات كنا نخوض في أحاديث من هذا النوع. كانت تهم التخوين شغالة بجد، وكان الفضاء يضيق بشكل سريع. الهواء في بغداد كان خانقاً. أنت بحاجة إلى صبر رهيب لكي تظل متوازناً. يلزمك الكثير من علب الدخان، والخمر الرخيص. يلزمك أصدقاء شجعان. يلزمك مغامرات عاطفية وجنسية، ويلزمك الكثير من القراءة. كيف يمكنك أن تحصل على ذلك كله، وكان أندر من طعام رجل يقضي ساعاته في البحث عن قوت عياله، فيما الأم تطبخ الدموع؟
كتابة الشعر في تلك السنوات كانت نوعاً من الاحتماء بالكلمة من قسوة المعيش. كل واحد من أبناء جيلي اجترح لنفسه طريقة ليحمي بها نفسه من الوقوع في الفخ الأكبر: الكتابة غير الإبداعية. الكتابة الرخيصة، التي لا تدافع عنك، بلغة حسين علي يونس، إذا ما غاب جسدك عن المكان. انظر من حولك الآن، وابحث عما تبقى. ستجد الحسبة سهلة للغاية. اذهب وفتش في أراشيف الكون كله ودلني على الخيانة التي يمكن أن يرتكبها شاعر ناحل وكسير، شاعر شقي، لنفسه ولبلاده. ابحث في النصوص، فالنصوص هي شهادة التاريخ. أما سيرتنا، فنحن هنا لا نحاول تجميلها بالقصص المسلية، لأنها موجودة فعلاً في نصوصنا التي بين يديك.
الهروب إلى عمان كان فصلاً في كتاب الجحيم ذاته. عمان كانت المختبر الحقيقي للتجربة. كيف يمكن أن يستمر مشوارك الشعري، والإنساني، وأنت بعيد عن المحرقة؟ هل ستظل المحرقة في رأسك؟ هل تغادرها إلى جحيم آخر؟ من الذي سيصمد؟ كيف ولماذا؟ والأصدقاء؟ ماذا عنهم؟
كانت تهم التخوين، وهي مما ابتليت به ثقافتنا العراقية من مرض لعين، تلاحق الجميع في العاصمة الأردنية. عبد الأمير جرص وصل أولاً إلى ليبيا، ثم سرعان ما عاد أدراجه إلى عمان. خلال هذه السنوات، كان النحس اليومي ظلاً لهذا الشاعر. عمل فترة في مشروع «أوراق ثقافية» الذي كان يديره الشاعر علي عبد الأمير، لكنه لم يكن من النوع الذي يستقر في مكان. فرّ من المجلة، ولم ينقطع عنها. ثم سافر إلى كندا لتقتله دراجة هوائية في قصة شائعة.
في كل هذه الأمكنة: الكوت (مسقط رأس الشاعر عبد الأمير جرص)، بغداد، ليبيا، عمان ثم كندا كنت ترى سيرة شاعر يتلقى الطعنات ولا ينحني. ضحكة عبد الأمير المجلجلة لا يمكن أن تخطئها الأذن. مرة كنا نمشي أنا وهو في شارع حيفا، قاصدين مبنى منتدى الأدباء الشباب الذي انتقل، بإدارة خالد مطلك، إلى مبنى اتحاد الإذاعات العربية في شارع حيفا، وكنا منهمكين في حوار ساخر. وإذا بعبد الأمير وجهاً لوجه مع شاعر ثمانيني، وبسرعة البرق تصادم الاثنان ضرباً. كنت بينهما لا أفهم شيئاً سوى محاولتي أن أفك الاشتباك. تناثرت دماؤهما، وتدخل المارة. وبجهد جهيد استطعنا أن نفصل بينهما. كان المنتدى قريباً، واستطعت أن أنقل صاحبي للمنتدى. وإلى اليوم، وبالرغم من أنني لم أعرف سبب هذا الشجار الدموي، إلا أنني أفكر فيه. كيف تحول عبد الأمير في تلك اللحظة المجنونة إلى ملاكم وهو الأنسي الذي لا تسمع سوى سخرياته المحببة أو ضحكته المجلجلة؟ كانت التسعينيات تطحنه، ولقد مضت سنوات قبل أن نجلس، علي السوداني وأنا وهو، في بار صغير في عمان... سخر جرص بكل شيء أثناء ذلك، كنت أصفن على وجهه، ضحكته مرعبة، كيف يمكنه تجاوز هذه المحن، كيف يتعايش معها؟ كانت حياته سلسلة من المحن، ومع ذلك، لا ينفك يكتب شعراً، ويزور معارض الرسم ويحلم...
هذه ليست سيرة عبد الأمير جرص، بل هي سيرة مجموعة من الشعراء الذين صادف أن خلقوا في أقسى بقعة جغرافية، وفي أكثر الأزمان التباساً. يمكنني أن أقول إنني أكتب عن عبد الأمير لأشعر أنني ما زلت حياً، تماماً مثلما يفعل علي سعدون أو محمد الأخرس أو حسين علي يونس أو أحمد الشيخ علي أو كاظم النصار أو فرج الحطاب أو عباس اليوسفي أو خالد مطلك... إلخ... إلخ.
شكراً لحسين علي يونس على جهدك في إصدار الأعمال الشعرية لعبد الأمير جرص. الشاعر الشقي الذي ستظل نصوصه شاهداً عن زمن أوكلت إليه مهمة التنكيل بالعشاق.
* شاعر عراقي مقيم في سيدني