ارتبطت السينما في لبنان ارتباطاً وثيقاً بالحرب. بعد مرور أكثر من أربعين عاماً، لا تزال صورتها وحكاياها طاغية على هويّة الفيلم اللبناني. هي دمّرت بلداً وشعباً وأحلاماً، لكنها كانت صفعة ضرورية للنهوض بالسينما. تحديداً، سينما المؤلف.
قدّم المخرج هادي زكّاك، وثائقي «سينما الحرب في لبنان» (2003). وثّق الأعمال الروائية والتسجيلية (إنتاج محلّي أو خارجي)، التي تناولت الحرب خلال مجرياتها، أو بعد إعلان وقف إطلاق النار من عام 1974 إلى عام 2003.
في لقاء مع «الأخبار»، يعتبر زكّاك أنّ سينما الحرب أتت أولاً كردّة فعل على السينما التجارية. تلك التي كان معظمها مستوحى من السينما المصرية أو الأجنبية، «سطحية، لا تعالج فعلياً المشاكل الاجتماعية أو واقع البلد، ونابعة من النظرة السائدة إلى السينما آنذاك». يضيف إلى هذه العوامل، دور الرقابة «التي كانت تمنع مثلاً تصوير الأحياء الفقيرة أو مظاهر البؤس، لتبقى صورة لبنان في السينما كما هي في البطاقة البريدية».
أدّت الحرب إلى نقطة تحوّل كبيرة في سينما المؤلف، بعد محاولات قليلة، انطلقت في السبعينيات، كجزء أيضاً من موجة الأفلام الملتزمة في العالم العربي، المنتفضة على السينما السائدة. يذّكر هادي بمهرجان دمشق عام 1972، بأسماء كريستيان غازي وفيلم «مئة وجه ليوم واحد» (1970)، وبرهان علويّة في «كفر قاسم» (1974).
يبقى فيلم «بيروت يا بيروت» (1974)، جرس الإنذار الأول، الذي دقّه مارون بغدادي، منذراً بالانقسام الذي كان قد ظهر في المجتمع اللبناني، في ظلّ واقع سياسي واجتماعي جديد، بدءاً من عام 1968. بالنسبة إلى هادي زكّاك، هناك سينما ما قبل «بيروت يا بيروت» وسينما ما بعده، لافتاً إلى أهميّة العنوان الذي اختاره بغدادي والذي يمهّد إلى التحوّل الجذري الذي ستشهده المدينة فيما بعد.
من التحوّلات التي شهدتها السينما مع بداية الحرب، القضاء على اللهجة المصرية، ليس فقط في الأفلام الروائية، بل في التجارية أيضاً (أو أفلام الأكشن التي انطلقت مع تجربة «حسناء وعمالقة» (1980) إخراج سمير الغصيني).

لم يعد هناك مهرب من النظر إلى المدينة المدمّرة، الأحلام الضائعة والمجتمع المنقسم

توجّه صنّاع الأفلام إلى الكلام عن الحرب. لم يعد هناك مهرب من النظر الى المدينة المدمّرة، الأحلام الضائعة والمجتمع المنقسم. «أصبحت الشخصيّات في أفلام الحرب، واضحة» بحسب زكّاك، أي أنّها ذات ميول وارتباطات سياسية وطائفية. «حتى الحياة الجنسية في مجتمع الحرب، تم تناولها بشكل مختلف، بعيداً عن الإغراء والابتذال».
ينتقل زكّاك للكلام عن ظهور «جيل» سينمائي جديد آنذاك، جيل برهان علوية ومارون بغدادي.. فضلاً عن ظهور المخرجات للمرة الأولى هايني سرور، جوسلين صعب ورندا الشهّال.
يأخذنا وثائقي «سينما الحرب في لبنان» برفقة ممثلّين، مخرجين وأشخاص عاصروا أو عملوا في أفلام الحرب. المصوّر حسن نعماني، جوزف بو نصّار، كارمن لبّس، برهان علوية، ليلى عسّاف، ايلي أضباشي، جان شمعون، سمير حبشي، دارينا الجندي وغيرهم. نقصد مع بعضهم، الأماكن التي كانت حينها مواقع للتصوير. بفرحة وانفعال، يعبّر مَن تسنّى لهم تصوير بيروت قبل اكتمال مشروع إعادة الإعمار. بيروت التي تشبه ما يريدون قوله عنها، قبل تدمير صورتها ومحو ذكراها.
من خلال هذا الوثائقي، نرى أيضاً أن السينما استفادت من الحرب، والعكس صحيح. يقول المصوّر حسن نعماني الذي رافق بغدادي في معظم أعماله التسجيلية، إنّ التنظيمات والأحزاب، هي من كان يملك المال، وكانت تموّل الأعمال السينمائية. كذلك، قدّمت الحرب لصانعي الأفلام، صورة حقيقية، ماثلة أمامهم... مدينة من حُطام وركام، أزياء عسكرية وسلاح، قتل وخطف وتهجير.
استمرّت أفلام الحرب مع بداية التسعينيات، بعد اتفاق الطائف، أبرزها مع زياد الدويري (بيروت الغربية)، جان شمعون (طيف المدينة)، سمير حبشي (الإعصار)، غسان سلهب (أشباح بيروت).
لاحقاً بعد عام 2003، يتحدث هادي زكّاك عن أفلام تناولت قصصاً أكثر شخصية، عاشها المؤلف في طفولته كـ «معارك حب» لدانييل عربيد، و«زوزو» لجوزف فارس، أو ميلودراما في ظلّ الحرب كـ«رصاصة طايشة» لجورج الهاشم.
يقول صاحب كتاب «تاريخ السينما اللبنانية، طريق نحو المجهول» إنّ معظم الأفلام الروائية التي أنتجت في حقبة الوجود السوري (حتى عام 2005)، لم يستطع صانعوها التحدث براحة، بل إنّ بعضها لم يعرض. ويضيف أن العمل الوثائقي لا يزال يملك حريّة أوسع في التنقيب في الحرب وأسبابها، وقوتّه في أنه يصوّر الحاضر، ولا يضطر إلى إعادة تكوين الماضي كما في الروائي.
«ماضي الحرب موجود في الحاضر، وهذا يردّ كل التساؤلات والشكوى من استمرار الكلام عن الحرب في السينما» يختم هادي بالقول إنّ علاقة سينما لبنان بالحرب، شبيهة بعلاقة سينما أوروبا بالحرب العالمية الثانية. يكاد لا يمرّ عام من دون إنتاج فيلم يدور حولها. يقول عن حرب لبنان «هذه حربنا العالمية، لم نشف منها بعد… ما زلنا نمشي فوق المقابر الجماعية».