هل تبقّى مجال للحوار في زمن الإقصاء؟ بل هل ثمة فسحة لطرح الأسئلة أساساً؟ وفي حال وجوده، ما نسبة الحوارات التي تجاوزت مرحلة الثرثرة، بخاصة في الوسط الثقافيّ؟ تتلاحق هذه التساؤلات وتتداخل يومياً، كلما تعثّرنا بـ «حوار» مع كاتب أو فنان أو مفكر. ولكن الصحافي السعوديّ علي سعيد لا يبدو مكترثاً بإعادة هذه الأسئلة المكرورة، بل يسعى عبر حواراته الصحافيّة إلى طرح أسئلة غير مسبوقة، حتى مع الكتّاب والفنانين الذين يبدو مجرد وجودهم تكراراً بحدّ ذاته. يأتينا كتابه «الحقيبة الجلديّة» (دار «أثر») ليضم «ما هو أوسع من الحوار بالمعنى الصحافيّ المعتاد؛ ثمة محاولة لإعادة الحوار إلى أصله الفني - «الديالوغ» - كجزء أصيل من أجزاء القصة».
جرأة في طرح الأسئلة الإشكاليّة، وتبرّم من الإجابات التقليديّة أو المتحفّظة
وما الأدوات هنا؟ كاميرا ومسجّل وحقيبة جلديّة وحياة كاملة من القراءة. وهذا التفصيل الأخير هو ما يميّز سعيد. لا يمكن أن يجري حواراً ما لم يجهّز «عتاده» الكامل. طوال عشر سنوات (2005-2015)، أجرى سعيد عشرات الحوارات، ولكن نقطة التفرّد أنّه لم ينشرها جميعها، إذ اكتفى بـ 13 حواراً «تولّدت من روح الحكايا، التي كان محرّكها الأول الحدث أو الواقعة أو الدراما»، بحيث تنوعت مشارب المبدعين فيها، بين النحت والشعر والرواية والفكر والتاريخ... والقراءة. وتنوّعتْ أيضاً – من دون قصد – جنسيات المبدعين من المشرق إلى المغرب. الأهم هنا هو خلوّ الكتاب من التواضع الزائف، أكان لدى المُحاوِر أو ضيوفه. لا فنّ حقيقياً بوجود قناع التواضع. الثقة هي مفتاح الإبداع. وهنا تتبدّى الثقة بشدّة في أسئلة سعيد واختياره لضيوفه وجرأته في طرح الأسئلة الإشكاليّة، وتبرّمه بالإجابات التقليديّة أو المتحفّظة. وبوجود هذه الثقة والجرأة، سنكون أمام قضايا إشكاليّة تحرّك مستنقع الثقافة الآسن، وتكون بمثابة ترياق لآفة النسيان.
ليس مصادفة أن تبدأ الحوارات بموت مبدع وتنتهي بموت مبدع آخر. ربما لأنّ الموت – مع أنّه كاد يصبح مستهلَكاً – بات المحرّض الوحيد لنا اليوم كي نحكي. وفعل الحكي والهمس وفسحة الصمت بينهما يشكّل مقاومةً بحد ذاتها اليوم. مَنْ يتذكّر النحات العراقيّ باسم حمد؟ مَنْ يتذكّر مجسّم «ناجين» الذي شغل مكان تمثال صدام حسين؟ كلّ ما كان يحاول حمد فعله هو وضع الأسرة محلّ الدكتاتور، ولكنّ ليل العسكرة الطويل أبى إلا أن يستبدل الأسرة بنصب للجنديّ المجهول. لا مكان للمدنيّة في عراق الأمس واليوم (وغداً ربما). أما النحت فكان ولا يزال «كفراً» قبل داعش وبعدها. لا مكان لتمثال يكرّم أطفالاً نسفتهم الحرب والتفجيرات، لأنّ هويّة الإنسان لا تتكرّس إلا بهذه التفاصيل الصغيرة، وتكرُّسها خطرٌ على أهل السلطة، لذا يكون النسف هو الحل بحيث «تشعر بالضبط وكأنّ أحداً يمسك بهويتك ويمسح صورتك عنها» كما يقول حمد في حواره الأخير. فيكمل الروائيّ علي بدر الجملة المبتورة السابقة حين يصف إخراجه ملابسه العسكريّة القديمة وذهابه إلى الحرب مجدداً، فتكتمل صورة العراق الجريح أمامنا. لا مكان للإبداع في ظلّ العسكرة.
الهويّة همّ إبداعيّ أزليّ. نجد هذا واضحاً لدى المبدعين الحقيقيين. فتخلخل صورة الهويّة الوطنيّة في سوريا سيدفع أدونيس إلى البقاء في المنفى، بصرف النظر عن اتفاقنا معه في هذا أم لا. وجرح الهويّة يسكن محمد أركون وكتبه التي تشرّح العقل الدينيّ بلا هوادة، وأصالة الهويّة في زمن ما بعد الحداثة وما بعد بعدها تدفع نصر أبو زيد إلى فضح أنصاف المفكّرين وأرباع المثقفين حين يؤكد رفضه التخلّي عن جنسيته المصرية رغم الإغراءات الكبيرة، والأهم التزامه بالكتابة بلغته، فاللغة جوهر الهويّة.
ليس بعيداً من هذه الهموم، يتابع القارئ رحلة البحث عن الإبداع في زمن شذرات فيسبوك وتويتر. إذ يشير ألبرتو مانغويل إلى أنّ عصر السرعة هذا لم يساعد القراء بقدر ما دمّرهم حيث تقدّم محركات البحث ومواقع التواصل وجبات سريعة واقتباسات بحيث «يخلق نوعاً من نفاد الصبر الثقافي، فيجعل القارئ يحس بصعوبة أن يقضي وقتاً طويلاً في قراءة نص بعينه»، ولذا ينفّذ مانغويل إضرابه على طريقته بالابتعاد ما أمكنه عن التكنولوجيا الحديثة وإعادة قراءة الكتب التي سبق له قراءتها عشرات المرات. وعصر السرعة هذا نفسه هو ما يخلق أوهاماً كبرى لدى الكتّاب الجدد إذ يسارعون إلى نشر كلّ ما يكتبون، «فيقرأ القرّاء تجارب الكاتب لسنوات طويلة دون العثور على الشعر في غالب الأحيان لأنهم يقرؤون تلك المحاولات التي بقينا سنوات ونحن نرميها في سلال المهملات»، كما يشير الشاعر قاسم حداد. ويتّحد وهم السرعة مع وهم الحداثة فيغيّر الكتّاب جلودهم القديمة ويسارعون إلى التجريب لأجل التجريب، وتشظّي الحكاية لأجل التشظّي، بحيث تبدو تجربة علي بدر مغايرةً تماماً، حين يشير إلى أنّ التجريب لا ينحصر – كما فهم معظم الكتّاب – في هدم التسلسل الحكائيّ، بل يكمن التحدي في المحافظة على التسلسل وفتح التجريب على مساحات السرد المتعددة.
شغف الحكي، شغف البوح، شغف الحوار. يتبدّى هذا الشغف بتجلّياته في المقدمات التي كتبها سعيد لكل حوار من الحوارات، بحيث تكاد تكون نصوصاً مستقلة بذاتها، تستعير الخيوط من سجّادة الحوار، وتحيك سجّادة أخرى متميّزة يبدو فيها الضيوف وكأنهم يتحاورون في ما بينهم. يضعنا علي سعيد في زمان الحوار ومكانه وحدثه فنحس بلهيب الكلمات وهي تحترق جيئة وذهاباً بين المتحاورين. ومع إدراكه أنّ طبيعة الحوار الصحافيّ في جريدة يوميّة تتنافى مع طبيعة الكتاب، يعيد سعيد تحرير الحوارات والمقدّمات بحيث تبدو جميعها وكأنها مكتوبة خصيصاً للكتاب، بحيث تصل إلينا طازجة رغم مسافات المكان والزمان.