يُعد «يوسف بيدس ـــ إمبراطورية إنترا وحيتان المال في لبنان» (دار النهار ــ الطبعة الأولى ــ 2014) من الكتب الشاملة. في دراسته المنهجية الغنية بالتحليل والمعلومات، عمل الكاتب والأكاديمي كمال ديب على تقصي الظروف والعوامل المؤدية إلى انهيار «بنك انترا» عام 1966. ليس ممكناً المرور على المادة بشكل سريع نظراً إلى دقتها وقدرتها الفذة على الإحاطة بالسياق التاريخي، السياسي والاقتصادي، الذي آل إلى قضم أهم مصرف في لبنان في فترة الخمسينيات وبدايات الستينيات من القرن المنصرم. يؤرخ صاحب «أمراء الحرب وتجار الهيكل» لمسيرة يوسف بيدس (1912 ـــ 1968)، المصرفي العبقري الفلسطيني، وكيفية تأسيسه لإمبراطورية اقتصادية تجاوزت الحدود اللبنانية إلى العالم. يسلط الضوء على تاريخ لبنان الاقتصادي بهدف فهم انهيار الرأسمالية الوطنية ووقوع لبنان ضحية الغزو الرأسمالي الغربي.
الكتاب باكورة الثلاثية الجديدة، وهو الجزء الأول الذي يغطي فترة عشرين عاماً، على أن يتبعه الجزء الثاني من الثلاثية، فترة تدمير لبنان تماماً من 1970 إلى 1990 والجزء الثالث المرحلة الحالية أي منذ 1990 التي بات لبنان معها تابعاً للنيوليبرالية وأربابها الإقليميين.
يدرس المؤلف النيوليبرالية كمدخل تمهيدي لفهم تأثيرها السلبي في التجربة اللبنانية. يعرض تاريخ الاقتصاد اللبناني منذ عام 1920 حتى حقبة انهيار «إنترا». يحلِّل نقاط الضعف فيه مع سطوة قطاع الخدمات على مفاصله، شارحاً تغلغل الرأسمال الغربي في شرايينه، ومؤرخاً لتاريخ بيروت الاقتصادي. يفصل الكلام عن دور «بنك فرعون وشيحا» وكذلك «بنك سورية ولبنان» وتدحرج الاقتصاد اللبناني من حضن فرنسا بعد الاستقلال (1943) نحو الرأسمال الأميركي.
لا تنحصر الفصول الأولى من الكتاب في رصد تاريخ الاقتصاد اللبناني. ثمة أحداث سياسية كثيرة طبعت المرحلة الممتدة لعقود. مرحلة تكشف عن عقم المشاكل في النظام السياسي والطبقة السياسية مع وجود استثناءات يشهد لها تاريخها بخوض تجربة الاصلاح. يفرد ديب فصلاً حول رواد الرأسمالية الوطنية في لبنان، قبل أن تستتب قدم النيوليبرالية الأميركية في المنطقة العربية، بينهم شارل قرم وميشال شيحا ونجيب علم الدين وإميل البستاني ومنير أبو حيدر. هدفه تبيان أن بيدس لم يكن حالة منعزلة في ترسيخ الاقتصاد الوطني و»أن القضاء عليه جاء في سياق ضرب كل هؤلاء ليكون ممنوعاً على لبنان أن يبني اقتصاده الوطني ويكون فعلاً حراً وسيداً ومستقلاً».

يتوقف عند العنصرية اللبنانية ضد الرأسمال الفلسطيني

تبدو الفصول المخصصة حول مسيرة بيدس الذي قدم إلى لبنان مع عائلته إثر نكبة فلسطين وبنى إمبراطوريته المالية الأكثر جاذبية، تمد القارئ بمعطيات جديدة وبتحليل نقدي عميق. استطاع بيدس، خلال 15 سنة بناء شبكة مالية اقتصادية كانت تُعتبر من بين الأكبر في العالم في تلك الفترة. بدأت تجربته الرائدة في العمل المصرفي منذ أن عمل لفترة 11 سنة في «بنك باركليز» الإنكليزي في القدس. بعد تأسيس «بنك إنترا» في لبنان (1951) امتدت فروعه إلى الدول العربية وأوروبا وأميركا. آمن وعمل على لبننة الاقتصاد اللبناني واستعاد شركات من الهيمنة الأجنبية. اشترى شركة «الميدل إيست» التي كان يملكها الإنكليز إلى جانب شركات أخرى.
احتلت بيروت في الستينيات مركزاً مالياً مرموقاً. وُصفت بأنها «قناة سويس مالية للشرق الأوسط». باتت «المركز المالي الأحدث والأسرع نمواً في العالم». هنا يضعنا المؤلف في تفاصيل التطور الذي عرفه القطاع المصرفي في لبنان وكان بيدس ركناً أساسياً فيه. في هذه الفترة، ضاعف «إنترا» رسملته ثلاث مرات من 6.4 ملايين ل.ل. إلى 20 مليون ل.ل. (7 ملايين دولار أميركي). أصبحت له فروع ليس فقط في أنحاء لبنان بل في عدد كبير من الدول منها سوريا، والأردن، والعراق، وقطر، وسيراليون، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وبريطانيا والولايات المتحدة. كما افتتح مؤسسات مصرفية وشركات استثمار في لبنان وسويسرا وليبريا ونيجيريا وغيرها من الدول. تجاوزت موزانة البنك في تلك الفترة خمسة أضعاف موازنة الدولة اللبنانية.
يتناول صاحب «هذا الجسر العتيق: سقوط لبنان المسيحي» تمدد امبراطوية «انترا» وتوسعها واستثماراتها المتعددة في قطاعات مختلفة، خصوصاً في قطاع الطيران المدني في شركة «الميدل إيست». شكل افتتاح فرع «إنترا» في نيويورك حدثاً مفصلياً في تاريخ بيدس. تصدر الخبر الصحف اللبنانية. عنونت إحداها صفحتها: «غزو مالي لبناني في قلب العالم الرأسمالي».
يكشف الكتاب عن مدى توحش حيتان المال في لبنان. تضامنت الرأسمالية البرجوازية اللبنانية التقليدية مع الرأسمالية العالمية على نحر إمبراطورية «إنترا». لا ينفي المؤلف أن ثمة أخطاء ارتكبها بيدس في إدارة مملكته المالية، لكنها لا تصل إلى حدود الانهيار القاتل. لم يكن عبقري القدس بعيداً من دهاليز السياسة اللبنانية. أدرك عن كثب تفاصيلها وأجبر على دفع الأموال للسياسيين لإرضائهم. كان بيدس مقرباً من الأوساط العروبية والقضية الفلسطينية والناصرية في مصر.
بدأت أزمة «إنترا» عام 1966. فما هي العوامل المسببة لها؟ يشير صاحب «بيروت والحداثة» إلى ستة عوامل، ثلاثة منها خارجية وأربعة داخلية. يفصّلها على النحو الآتي: استعمال المصارف العالمية لنفوذها لمحاربة «انترا» بدعم من الحكومات الغربية؛ وارتفاع أسعار الفائدة في الأسواق العالمية الكبرى بشكل دراماتيكي أعجز «انترا» عن مواكبته؛ ووقوع «انترا» في شق الحرب الباردة العربية بين الرئيس عبد الناصر وخصومه العرب؛ وتكتل الأعداء في لبنان من سياسيين ومصرفيين ورجال أعمال وعائلات ضد بيدس وإمبراطوريته؛ وأسلوب بيدس نفسه الذي لم يتأقلم ولم يندمج في البيئة اللبنانية بعد 15 سنة من إقامته في بيروت؛ والفوضى في إدارة إمبراطورية «انترا» التي لم تعمل وفق الشروط العالمية والعصرية، خصوصاً ضرورة تنازل رئيس البنك لمعاونيه وللخبراء عن بعض الصلاحيات، وأخيراً العنصرية اللبنانية ضد الرأسمال الفلسطيني وضد الأدمغة الفلسطينية.
توحدت الطبقة السياسية والمالية ضد بيدس ورفضت مساعدة «انترا» خلال الأزمة/ الانهيار. اتخذ القرار بإنهاء نفوذه والقضاء على إمبراطوريته. من المحرمات أن يتعملق رجالات السياسة والاقتصاد في لبنان. دفع بيدس الثمن وسبقه إلى ذلك إميل البستاني وغيرهما من الشخصيات المؤثرة في المجالين الاقتصادي والسياسي.
لم يقتصر اهتمام بيدس على القطاعات المالية والسياحية والتجارية، تخطاها إلى عالم الثقافة والفن مثل السينما والمسرح والراديو والتلفزيون والصحافة والطباعة والرقص والموسيقى.
«يذكر التآمر على بيدس بالتآمر لقتل القياصرة». عبارة وردت في مقالة أنسي الحاج المعنونة «خطيئة بيدس» التي نشرها المؤلف في الفصل الأخير من كتابه الذي تضمن شهادات أخرى في بيدس منها شهادة كمال جنبلاط التي جاء فيها: « المؤامرة السياسية كانت غيمة سوداء فوق «انترا». الدولة هي المسؤولة عن ضرب بنك «انترا». أما يوسف بيدس فنحن نعتبره الرجل الذي بنى أكبر مؤسسة عرفها لبنان الحديث في تاريخه القصير».
«يوسف بيدس ـــ إمبراطورية إنترا وحيتان المال في لبنان» عمل مرجعي يحتاج إلى قراءات عدة. ثمة جهد كبير بذله المؤلف. قدم لنا رؤية وافية حول الظروف التي أنهت مملكة «أوناسيس الشرق» وأدت إلى زعزعة القطاع المصرفي اللبناني في خريف 1966.