(إلى وحيد الطويلة، طبعاً)


(1)
كانت ثمّة شقّة؛ شقّة أولى.
كانت ثمّة عمارة؛ عمارة أولى.
كان ثمّة سرير؛ سرير أول.
وكان ثمّة رجل؛ رجل أول.

الشقّة كانت في العمارة. وفي السرير كان ثمّة رجل.
رجل حقيقي، يحلم.

(2)
ستكون ثمّة شقّة؛ شقّة ثانية.
ستكون ثمّة عمارة؛ عمارة ثانية.
سيكون ثمّة سرير؛ سرير ثان.
وسيكون ثمّة رجل؛ رجل ثان.

الشقّة ستكون في العمارة. وفي السرير سيكون ثمّة رجل.
رجل متوهّم، يحلم.

(3)
إذا ما افترضنا ﺃنّه حدث «تطابق نسبي» ، بفعل ما يمكن أن نطلق عليها اعتباطاً مسمّى «الروابط اللاسببية» (*)، بين الزمن الفائت وزمن سوف نختلقه، بين المكان القائم ومكان سوف نختلقه، وبين الشخص الحاضر وشخص سوف نختلقه، فإنّ الشقّة الأولى تصبح عندئذ موازيّة للثانية، وبالمنطق الخالص للبداهة، فإنّ العمارة الثانية تصبح مقابلة للأولى.

وبالطبع، بإمكان أيّ من الشخصين، الحاضر أو المختلق، الشخص الحقيقي أو ظلّه، أن ينهض من سريره ويتحوّل إلى بهلوان بأرجوحة هزّازة أو بعصا موازنة، ثم يجرّب متعة القفز أو السير على حبل مشدود بين العمارتين.

لا ضير في ذلك، فلن يقع لأيّ من الشخصين، المختلق أو الحاضر، ظلّ الشخص أو حقيقته، أدنى طارئ أو مكروه، حتّى مع وجود الإكراه المتمثّل في غياب شبكة الحماية.

نعم، إلى حدود هاته اللحظة، لن يقع لأيّ منهما أيّ مكروه أو طارئ، ما دام اللاوعي لم يسقط بعد حبكة الحكاية إلى الخارج، ولم يتحقّق الالتحام النهائي بين المحاكاة الانفعاليّة والواقعة الفعليّة.

(4)
أمّا إذا ما شئنا التوغّل قليلاً في كيد الرمال المتحرّكة للافتراض بعد أن يحدث «التطابق الكامل»، فإنّ الرجلين معاً، الآن، يرقدان في سريرين مختلفين، لكنّهما بالمقابل يعاقران حياتين متجاورتين في نفس الحلم.

تقريباً، في نفس الحلم، لكن بتزامن متباعد، إذا ما وددنا توخِّي الدِّقة المطلقة.

الأول أو الثاني لا يعرفان بعضهما.
الرجلان بعضهما لا يجب أن يعرفا.

الثاني أو الأول لا يعرفان أنّهما يقطنان في نفس الشقّة الموازيّة.
الرجلان لا يجب أن لا يعرفا أنّهما يقطنان الشقّة الموازيّة نفسها.

الأول أو الثاني لا يعرفان أنّهما يسكنان في العمارة المقابلة نفسها.
الرجلان لا يجب أن يعرفا أنّهما يسكنان في نفس العمارة المقابلة.

الثاني أو الأول لا يعرفان أنّهما يحملان عبء نفس الحلم، سويّا.
سويّا، الرجلان لا يجب أن يعرفا أنّهما يحملان عبء نفس الحلم.


(5)
الأول أو الثاني. الثاني أو الأول. الرجلان. كلاهما. كلاهما معاً يجب أن يكونا مثل شخص واحد. تماماً مثل ذلك الشخص الواحد الذي يظهر له وجهان كلّما انتصب أمام المرآة كما في إحدى لوحات «ﺇدوارد هوبر»، أو بالأحرى مثل صالتين سينمائيتين تجهلان أنّهما تعرضان نفس الفيلم في التوقيت ذاته، لكن في مكانين متباعدين تماماً.

الرجل الأول لا يعرف مطلقاً. لن يعرف مطلقاً أن له القدرة على استيقاف العديد من الأحلام، التي كان يرسلها اللاوعي إلى امرئ آخر. لا يعرف مطلقاً. لن يعرف مطلقاً أنّ بمستطاعه في لحظة ما، غير محدّدة بالضبط، أن يصبح جزءاً من أحلام الثاني.

والرجل الثاني لا يعرف مطلقاً. لن يعرف مطلقاً أنّ له القدرة على استيقاف العديد من الأحلام، التي كان يرسلها اللاوعي إلى امرئ آخر. لا يعرف مطلقاً. لن يعرف مطلقاً أنّ بمستطاعه في لحظة ما، غير محدّدة بالضبط، أن يصبح جزءاً من أحلام الأول.

(6)
فعلى سبيل المثال:

إذا كان الرجل الأول قيد الحلم، قيد الجمود، قيد سكّة الحديد، قيد نفق مظلم، ثوان قليلة قبل أن يمحقه القطار.

القطار يمحق الرجل الثاني الذي عوّضه في المشهد.

أو مثلاً:

إذا كان الرجل الثاني عرضة للخلاء، عرضة لظلّ مباغت من خلف كتف الطريق، عرضة لطعنة سكين، في اللحظة الحاسمة قبل الطعنة.

الطعنة تصيب الرجل الأول الذي عوّضه في المشهد.

(7)
لكن، بما أنّ المخاتلة وتقمّص الأدوار وتكرار النموذج، هي من المواهب المضمونة للرمال المتحرّكة للافتراض، حدث أن كان الرجل الأول منخرطا في خضم حلم رئيسيّ يطلّ بموجبه من شرفة العمارة، لما دفعه ﺃحدهم بغتة من الخلف ليسقط من علو شاهق. وبذات الموجب، كان يتوقّع أن يتهشّم بلا رحمة على أرضيّة الشارع مثل بالون ضخم محشو بالدم والأوصال، غير ﺃنّه وجد نفسه وفق موجب مغاير يغرق في المياه كأنّما هوى في بحيرة عميقة الغور، تسبح في لجّتها سمكة قرش متربّصة جائعة.

فيقرّ نوم الرجل الثاني على أن يلبي نداء حلم فرعيّ في اللّيلة القادمة، ليغدو بعد تكبّده لمشقّة التعديل سمكة قرش متربّصة وجائعة، تسبح في لجّة بحيرة عميقة الغور، سقط فيها رجل أول من علو شاهق، بعد أن دفعه أحدهم بغتة في اللّيلة الفائتة من على شرفة العمارة.

ولمزيد من توفير أسباب النجاة، ومن منطلق أنّ المسافة الفاصلة بين حلمين هي أيضاً حلم، لن نقصي احتمال عودة الرجل الأول ضمن خانة حلم بديل في اللّيلة الثالثة ليغدو هذه المرة هو تلك البحيرة عميقة الغور التي سقط فيها هو نفسه من علو شاهق، بعد أن دفعه أحدهم قبل يومين من على شرفة العمارة، وأضحى عرضة لخطر سمكة قرش متربّصة وجائعة.

كما لن نفاجأ بالمرة وككلّ مرة، إذا ما زجّ الرجل الثاني بنفسه في اللّيلة الرابعة إلى مسنّنات التزامن الهادرة ليوقف صيرورة «الروابط اللاسببية»، واكتفى فحسب وهو قرير النوم باحتلال نسخة طبق الأصل من الحلم الرئيسيّ للرجل الأول وهو يطلّ من على شرفة العمارة، لكن بعد حذف كافة فرضيّات الزمن والسببيّة والتوازي والعلو والعمق والغرق والجوع والخطر!

(8)

في هذه الأثناء بالتحديد، ثمّة فقط شقة، وثمّة عمارة، وثمّة رجل.

رجل وحيد نهض لتوّه من سرير نومه ليقف على الشرفة، ثم طفق يحدّق بإمعان في الفراغ الهائل الممتدّ أمام ناظريه.

الفراغ ذاته، الذي يغري دائماً بالقفز أو بالسير على حبل مشدود بين العمارة و العدم.

رجل وحيد: هو أنا!


(*) «الروابط اللاسببية»: من المفاهيم الأساسيّة التي أوردها العالم النفسي السويسري كارل غوستاف يونغ في مؤلفه «التزامن: مبدأ رابط لاسببي»، والذي ساق بين ثناياه أمثلة عدة عن الحالات اللافتة للتزامن، خاصة المثال الشهير ﻟ «الثماني سمكات» (الموافق لعدد مقاطع القصة). يقول يونغ: «اليوم هو الجمعة. لدينا سمكة على الغداء. ويحصل أنّ أحداً ما يذكر عادة سمكة نيسان. في ذلك الصباح ذاته كنت قد دوّنت ملاحظة عن نقش. كان النقش يحتوي على صورة كائن نصفه إنسان ونصفه سمكة. بعد الظهر أرتني مريضة سابقة، لم أرها منذ أشهر، لوحات مؤثّرة جداً لأسماك رسمتها في هذه الفترة. وفي المساء رأيت قطعة من التطريز فيها وحوش بحرية تشبه الأسماك. وفي الصباح التالي، الثاني من نيسان، حكت لي مريضة أخرى، لم أرها منذ سنوات، عن حلم رأت نفسها فيه واقفة على شاطئ بحيرة ورأت سمكة كبيرة تسبح باتجاهها مباشرة وتتوقف عند قدميها. كنت في هذه الفترة منهمكا بدراسة رمز السمكة في التاريخ». لقد دوّن يونغ هذه الأحداث بينما كان جالساً قرب بحيرة. وحين أنهى الجملة الأخيرة، راح يمشي باتجاه الرصيف البحري. وهناك رأى سمكة ميتة طولها قدم تقريباً ولم تبد عليها أية أذية واضحة، ولم تكن هناك عصر اليوم السابق. وحين نجمع كلّ هذه التفاصيل معاً، يكون لدينا ما مجموعه ثمانية حوادث على الأقل متعلقة بالسمك، ينظر في هذا الصدد: الآن كومبس ومارك هولند، «التزامن: العلم والأسطورة والألعبان». (ترجمة: ثائر ديب، دار مكتبة إيزيس، دمشق، 2000 ــ ص 133/134).

* قاص وكاتب مغربي
(*) المرجع البصري:

Le Locataire – Roman Polanski