مشهد العمال يختصر كل ما يمكن أن يُقال. حاجاتهم ومصالحهم وارتباطاتهم تغني عن الكثير من تكرار ما قيل في السنوات الماضية عن اتحاد عمالي عام مسلوب الهوية والشخصية. ففي الأصل، كانت السيطرة على الاتحاد جزءاً من نموذج الاقتصاد السياسي. قدرة العمال على المطالبة بحقوقهم باستقلالية تعني زيادة في قدراتهم التفاوضية لفرض تعديل جذري في هذا النموذج وآليات عمله، لذا لم يكن ممكناً منع ذلك من دون تحويل الاتحاد إلى آلية تعمل في خدمة السلطة حصراً. أما اليوم، ورغم المفاعيل الكارثية للانهيار على القوى العاملة، بأوضاعهم المعيشية والوظيفية والقطاعية، إلا أن الاتحاد ما زال يقوم بدوره كاملاً مع قوى السلطة، وهذا أمر لا يمكن رؤيته بالفعل إلا في الوقائع. لذا، اخترنا خمسة مشاهد لعمال لديهم وظائف في التجارة والخدمات والصناعة والزارعة. في الخدمات وقع الاختيار عشوائياً على عاملة نظافة وعلى عاملة مبيعات، وليس على عمّال في المصارف أو في قطاع السياحة مع أن الضرّر أصاب الجميع وبدرجات متفاوتة. أيضاً لم يكن غياب العاملين في القطاع العام مقصوداً مع أن هؤلاء هم أكبر الخاسرين في القوة الشرائية بسبب بطء الآليات الرسمية لتعويض القدرة الشرائية وارتباطها بمسائل مثل التمويل الحكومة والإيرادات والضرائب... رغم ذلك، المشاهد الخمسة تمثّل الكثير مما يحصل في المجتمع اللبناني ليس فقط عن انهيار القدرة الشرائية، بل عن إفلاس صناديق التغطية الصحية صعوبة تمويل كلفة الاستشفاء والطبابة والنقل والكهرباء، وعن الرغبة في الهجرة وصعوبة المعاندة بوجه سلطة تحاول طمس جرائمها. هذه العينة يفترض أنها ستحتفي في الأول من أيار بعيد العمّال، لكنها لم تعد ترى فيه سوى «كذبة»
السلطة، المرض، الفقر
«يا ريت لو أجّلتوا الزيارة يومين بس لنستعيد حصّتنا من جرّة الغاز ونقوم بواجبكم ونضيّفكم قهوة»، بهذه العبارة الساخرة تحاول ريان إخفاء ظلم خلّفته ثلاثية: السلطة والمرض والفقر. رغم أنها وجدت عملاً منذ ثلاثة أشهر في إحدى صالات بيع الملابس في ضاحية بيروت الجنوبية، إلا أن الأجر المتدني يفرض نمطاً من المعيشة بموجبه تستأجر غرفة في منزل يؤويها مع أختها إلى جانب زميلات سكن أخريات. يتفق جميع سكان المنزل على ألا يستهلكون أكثر من قارورة غاز واحدة شهرياً لأن القارورة التي يؤمنها صاحب المنزل، وإلا يكون على كل واحدة منهن أن تتدبر أمورها سواء بالتعوّد على الطعام غير المكتمل الطّهو أو بشراء الطعام الجاهز، أو بإنضاج الأكل على موقد صغير متنقل، أو بأي طريقة أخرى. وريان لديها علاج شهري كلفته الشهرية تبلغ تبلغ 9 ملايين شهرياً، ومفروض عليها أن تجري صوراً شعاعية مرة كل ثلاثة أشهر علماً أنها استغنت عنها إلا عند الضرورة القصوى.
تعمل ريان 10 ساعات يومياً مقابل 7 ملايين ليرة، وتقصد مكان عملها ذهاباً وإياباً مشياً لمدّة ساعة يومياً. كانت ترجو أن يكون لتعليم أختها وحملها شهادة ماجستير مردوداً أفضل، إلا أن حالها انتهى في أحد مختبرات المراكز الطبية براتب شهري لا يتجاوز 150 دولاراً تقتطع منه 120 دولاراً الإيجار الشهري للسكن وثمن الدواء وتشريج الهواتف في أحسن الأحوال. يغيب عن المشهد الطعام واللبس. لم تعد تذكر الأختان آخر مرة استهلكتا فيها اللحوم، ولا تنكران أنهما حصلا على نصف كيلوغرام في شهر رمضان ويحصلان على «إعانة» هي عبارة عن حصّة شهرية من الحبوب والبقوليات.

أرباب العمل يربحون دائماً
حمزة ابن الـ25 عاماً يعمل تقنياً في مصنع لف محركات كهربائية. كان راتبه الشهري قبل الأزمة يبلغ 1000 دولار، لكن رب عمله يدفع له الآن 300 دولار من ضمنها بدل النقل. يسكن في بلدة تبعد 20 دقيقة عن بيروت ويذهب إلى مكان عمله ويعود على دراجته النارية، ومع شقيقه يعيلان أسرة من خمسة أشخاص. قصّة حمزة لا تبدأ فقط بالانهيار النقدي، إنما بإغلاق المصنع. ففي عام 2020 وبسبب إجراءات كورونا أغلقت أبواب المصنع ما دفع حمزة إلى اقتراض 3000 دولار من أجل تأمين علاجات لأفراد عائلته، وسدّد مبلغاً شهرياً مقطوعاً يبلغ 100 دولار لمولّد الحي، فيما أصيب أحد أفراد عائلته بفشل كلوي يتطلب غسيلاً دائماً. لكن رواية المرض ليست هي القصة كلّها، فمنذ 7 سنوات كان طالباً جامعياً في تخصص نظم المعلوماتية الإدارية، ثم عمل في المصنع بدوام من الساعة الثامنة صباحاً حتى الخامسة عصراً، لكن رب عمله منعه من المغادرة مبكراً في بعض الأيام لمتابعة دروسه، وفي السنة الثانية تخلى عن الجامعة مكرهاً، ومعها لم يعد يخفي كرهه لرب عمله الذي يجمع الأرباح ولا يهتم إلا بها. هو نفسه الذي يعمل لديه اليوم مقابل أجر زهيد مقارنة بالأرباح التي يحققها وبالجهد الذي يبذله مع زملائه. «يمكن بهالبلد مش لازم الولد يكبر»، عبارة يتحسّر فيها على ابنه، فهو لم يعد يعتقد أن هناك ما يمكن القيام به سوى الدعاء.

من الكفاية إلى الهجرة
يومياً يواجه نزيه توسّل الركاب لخفض أجرة النقل. لكنه هو أيضاً لديه توسّلاته بألا تتعطّل السيارة أو ينخفض سعر البنزين. هذا ما يحصل عندما يوضع فقير في مواجهة فقير. ونزيه الذي يكون على تماس يومي مع عبارات التوسّل والقذف والشتم، لا يأسف على إفناء عمره في العمل متنقلاً بين المطاعم والفنادق ليجمع أموالاً موّلت هجرة ولديه. يعمل كسائق تاكسي لأنها المهنة المفتوحة المتاحة لكل من أنهى أو أُنهيت وظيفته. بعضهم يفتتح عملاً تجارياً صغيراً مثل دكان، لكن الغالبية تعمل كسائق أجرة. فالقطاع غير منظّم ومفتوح بشرط امتلاك أو استئجار سيارة ونمرة عمومية. لكن ليس ذلك ما يؤلم نزيه، فقد أتيحت له الفرصة أن يجني دخلاً شهرياً يكفيه. لكنه اعتباراً من عام 2019 بات مرغماً على قبول مبلغ 200 دولار من ولديه المهاجرين لتغطية بدل إيجار المنزل واشتراك مولد الكهرباء ورسوم المعهد لابنه الأصغر الذي بدوره يستقل تاكسي والده فترة المساء لتأمين مصروفه الخاص. ويقول نزيه إن أيام العمل الفعلية مقارنة مع المردود المالي يتقلص يوماً بعد آخر، إذ إن المردود يكفي عملياً لتغطية معيشة أربعة أيام في الأسبوع.
أيام العمل الفعلية مقارنة مع المردود المالي يتقلص يوماً بعد آخر

طبعاً هذا العجز يعني أوقاتاً أكثر في المنزل تكون كئيبة نسبياً وليست ترفيهية. الترفيه الوحيد هو زيارة القرية في المناسبات القليلة بسبب كلفة الوقود المرتفعة. في المقابل، تجهد زوجته في الاقتصاد بهدف ادّخار بعض من تحويلات ولديها الشهرية، وتمنّي نفسها بالاستفادة، كجيرانها، من بطاقة «أمان» بعد أن تم الكشف على المنزل والتأكد من المستندات المطلوبة والأوراق الثبوتية.

من الزبائنيّة الضيّقة إلى الزبائنيّة الموسّعة
أم مالك عاملة نظافة. في الشهر الماضي استفاقت على ألم لا يُحتمل، فنقلت إلى مستشفى السان جورج تطلّب وضعها إجراء عملية فورية. لم تكن تكاليف الجراحة متوافرة، لكن زوجها قَصَد مكتباً لأحد الأحزاب للوساطة، ومكتباً آخر لمرجع ديني للمساعدة النقدية، وشخصاً آخر على علاقة بإدارة المستشفى لخفض الكلفة، فضلاً عن جمع مبلغ 500 دولار من الميسورين. في السابق كانت الوساطة الحزبية كافية لتقوم الدولة بتغطية الكلفة، أما الآن فالمسألة تحتاج إلى جهات عدة. والمرض يعني أن هذه المرأة العاملة حصلت على إجازة مرضية وستقبض راتباً محسوماً منه بدل النقل. هي أم لطفلين، تعمل من السابعة صباحاً حتى الرابعة عصراً براتب شهري ثابت قيمته 5 ملايين ليرة يُضاف إليها مساعدات من المؤسسة تصل إلى 3 ملايين ليرة. عملياً، تتقاضى ما يساوي الحدّ الأدنى للأجور الذي صدر أخيراً. زوجها يعمل في خدمة التوصيل في مستودع أدوية، ولديه عمل جزئي صباحاً إذ يقل اثنين من الموظفين إلى مكان عملهما مقابل مبلغ شهري يبلغ 2.5 مليون ليرة. مثل غيرها، تركّز أم مالك في وجباتها اليومية على منتجات الحبوب الأقل كلفة، أما اللحوم فهي بكميات قليلة جداً: «أوقية» في الحدّ الأقصى، لأنه «إذا ما عملنا هيك مننكسر». إيجار شقتها 150 دولاراً شهرياً، ونحو 40 دولاراً لاشتراك المولد.

فول أم بازلاء؟
في عام 2016 انتقل مصطفى إلى قريته الحدودية في قضاء مرجعيون للسكن والعمل في الزراعة عائداً من مدينة بواكي في ساحل العاج بعدما أمضى فيها 8 سنوات يعمل في مصنع للورق.
بعد جولة من المشورة والدراسة باشر مصطفى في مشروع الزراعة واختبر الزراعات الصيفية مثل الكوسى والقثاء والخيار والبندورة، والزراعات الشتوية أيضاً مثل الملفوف والزهرة والخس... لكنه اكتشف بعد 6 سنوات أنه لم يعد قادراً على الاستمرار لا لرداءة في الإنتاج، ولا لقلّة في إقبال الزبائن، إنما بسبب الأكلاف الخيالية التي تتطلبها خيمة زراعية واحدة، فكيف الحال بأربعة؟ ففي مقابل هذه الكلفة، هناك مبيعات زهيدة وجشع «كارتيل أسواق الحسبة». كلفة الاستثمار، شملت استصلاح الأرض وتجهيزها، ثم هناك كلفة التشغيل السنوية التي تشمل ثمن الشتول والبذور والأسمدة والمبيدات وأنواع محدّدة من الفيتامينات، ولوازم التعبئة والتغليف والنقل إلى الأسواق... يحصل على بعض المساعدات الزراعية من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAID، لكنها تصل إليه في غير موعدها، فقد سبق أن تلقى شتولاً من الباذنجان والخس في الصيف وتلفت قبل أن ينقلها للخيمة بسبب حرارة الطقس. وكذلك الأمر بالنسبة إلى شتول الخيار والكوسى التي لم تستطع مقاومة برد الشتاء. بات مصطفى حاقداً على الزراعة ويدرك أن التجّار يأكلون الأخضر واليابس. لكن ميزات المزارع هي المونة التي زرعها من حمص وقمح وفول وسواها، وهو أمر يستحضر يومياً في سؤال ابنته: «شو الغدا اليوم، فول أو بازلّا؟». الآن المشقّة تدفعه نحو الآتي: الهجرة إلى الخليج.