لا يكفي الاستدلال بمؤشّرات مثل حصّة الأجور من الناتج لإظهار ما تعرّض له العمال على مدى العقود الثلاثة الأخيرة، لا سيما أن هذه المؤشرات، على أهميتها، لم تكن تصدر بشكل رسمي ولم يكن يتبناها إلا قادة الرأي. ولا يكفي أيضاً القول أن الخسائر في القوّة الشرائية كبيرة جداً سواء على صعيد المداخيل أو المدخرات. وقد لا يكون مؤشراً واضحاً لدى فئات واسعة من الأسر أن التضخّم الذي بلغ 3400% هو نتيجة وليس سبباً... ثمة الكثير من المؤشرات الإحصائية التي تدلّ على معاناة العمال وأسرهم من ظلم «النظام»، إلا أن جميعها ليس قادراً على مضاهاة الصورة التي رسّخها النظام في أذهان القوى العاملة وأسرهم. فقد أوهمهم بأن مصدر حمايتهم يكمن في ارتباطهم العضوي بشبكة مصالحه السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي نسجها آباء النظام وأبناؤه ولفيفهم على مدى العقود الماضية. وهذه الشبكة لم توفّر له فقط الحماية، بل القدرة على النهب المنظّم. أما العمال فقد حصلوا في المقابل على «الحماية» عبر قنوات الارتباط هذه، على شكل سياسات الدعم الظاهرة والزبائنيّة، وهو ما دفعهم إلى التخلّي عن تنظيماتهم النقابية التي تحمي حقوقهم.

انكشف كل هذا البنيان بعد انتفاضة تشرين الأول 2019. خلال فترة قصيرة، تبيّن أن لبنان مفلس، وأن النظام سرق أبناءه. عندها انتقلت السلطة من الدعم المستتر للعملة، والدعم الزبائني، إلى الدعم على المكشوف من خلال إنفاق أثمن ما لدى لبنان في ظل إفلاسه، وذلك لضمان استمراريتها وطمس معالم الجريمة.

الدعم المستتر والزبائنيّ
منذ نهاية الحرب الأهلية، أصبح الاقتصاد اللبناني متطرّفاً أكثر نحو الخدمات والريع. ومن أُسس ذلك كان تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار اعتباراً من عام 1997. عملياً، كان التثبيت بمثابة دعم مستتر للعملة المسعّرة بقيمة 1500 ليرة مقابل الدولار، أي بأقلّ من قيمتها الفعلية. ضبطت العملة من خلال آليات نقدية تتطلّب تدخّلات مستمرة من مصرف لبنان في السوق شارياً أو بائعاً للدولار بهدف الحفاظ على ثبات السعر ضمن هامش يُراوح بين 1501 و1514 ليرة، وهو ما استنفد كتلة هائلة من موجودات مصرف لبنان بالعملة الأجنبية على مر السنوات ولغاية بداية الأزمة في عام 2019. تثبيت سعر الصرف كان عبارة عن أداة لدعم الاستهلاك في السوق، لأن رفع قيمة الليرة كان يعني رفع القدرة الشرائية للأجور، وبالتالي قدرة استهلاكية أكبر لدى الأسر.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

إلا أن الدعم لم يتوقف فقط عند دعم العملة، بل كان يظهر في أماكن أخرى. فمثلاً سعر بيع الكهرباء من قبل الدولة اللبنانية كان مدعوماً على سعر ثابت منذ التسعينيات رغم كل التطورات التي لحقت بأسعار النفط، ولم تقم الحكومة بزيادة التعرفة إلا في نهاية السنة الماضية بعد تجفيف إنتاج الكهرباء إلى حدود صفرية لمدّة سنتين. وهذا دعم استفادت منه جميع شرائح المجتمع أيضاً مع فوارق تتعلق باستفادة أكبر للأكثر قدرة على الإنفاق. أيضاً كانت هناك أشكال أخرى للدعم، مثل القروض المدعومة السكنية، والقروض للقطاعات أيضاً... وهنا أيضاً كانت الفوارق هائلة في استفادة صغار الكسبة ومتوسطي الأجر، مقارنة مع أولئك الذين لديهم مداخيل كبيرة وأصحاب الرساميل. وهذه ليست سوى نماذج عن الدعم، إذ برزت الكثير من الفئات المطالبة بحصّة أكبر. فبينما كان يحصل العمال على دعم للخبز، حصل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ومثله عشرات من أصحاب الرساميل الذين يسمون أنفسهم رجال أعمال على قروض مدعومة هائلة أحجامها تفوق بأضعاف كل ما أنفق على دعم الخبز. بضعة مصانع كبيرة كانت حصّتها من دعم الكهرباء تتجاوز بأضعاف ما حصل عليه سكان ضواحي بيروت غرباً وشرقاً. واستخدم كل الدعم الذي كان يروّج أنه يصب في صحون الفقراء، من أجل تجميد الأجور لمدّة 16 سنة، وبعدها بدأت تأتي الزيادات بالتجزئة.
غالبية الموارد التي غطّت هذا الدعم لم تكن ملكاً للدولة، أو لمصرف لبنان الذي أخذ على عاتقه منذ التسعينيات التحكّم بسياسات الدعم، من العملة إلى القروض. بل إن الأموال التي صُرفت في سبيل الدعم في تلك الفترة، تشكّل حصة وازنة من خسائر النظام المصرفي التي تراكمت على مدى عقدين.

دعم إبطاء الانهيار
عملياً كانت خسائر النظام المصرفي سبباً رئيسياً في انفجار الأزمة اعتباراً من بداياتها في النصف الأول من عام 2019. فمع توقّف تدفق الأموال من الخارج إلى الداخل، تكشّفت هذه الخسائر وتبيّن أنها كانت مموّلة من الودائع. ومع انعدام قدرة مصرف لبنان على التدخّل في السوق لحماية تثبيت سعر الصرف، بدأ هذا الأخير يتفلّت شيئاً فشيئاً، ما أطلق موجة تضخّم هائلة في الأسعار. مصرف لبنان استبق أي دعم وأصدر تعميماً يبقي تمويل استيراد القمح والبنزين والمازوت والتجهيزات الطبية والدواء بسعر صرف ثابت لا ينسجم مع السعر السوقي، أي بسعر مدعوم واستعمل لتمويل هذا الأمر من موجوداته بالعملة الأجنبية. لكن الأمر لم يكفِ لتهدئة الغضب في الشارع، ما دفع الحكومة إلى تشريع الدعم المكشوف من خلال إقرار دعم سلّة واسعة من السلع الغذائية.
أدّت قرارات مصرف لبنان والحكومة إلى تبديد نحو 8 مليارات دولار على دعم استيراد هذه السلع، وهو ما أثار انتقادات واسعة، ولا سيما أن مصرف لبنان منح مبلغاً يتجاوز 7 مليارات دولار للمصارف لتسديد متوجبات خارجية عليها. عملياً، وبواسطة قنوات الدعم، صبّ أكثر من 15 مليار دولار في جيوب المصرفيين والتجار والمحتكرين فيما تدنّت الموجودات الخارجية التي تمثّل الذخيرة الأكثر أهمية للبنان في ظل شحّ التدفقات وحجم الخسائر بالعملة الأجنبية.
سياسة الدعم المعلنة، كان لها مبرّر واحد وهو أن تباطؤ الحكومة وتقاعسها أيضاً عن مواجهة الانهيار وارتفاع سعر الصرف وانعدام رغبتها في زيادة الأجور، سيتم تعويضه من خلال الدعم. طبعاً كان يمكن ضخّ بعض هذه الأموال لتسديد بعض من الودائع ما كان أدّى إلى كبح مفاعيل الانهيار وتقليل المخاوف في السوق ومنع سعر الصرف من الانهيار بشكل متسارع. لكن الواضح، أن رغبة قوى السلطة هو السماح للانهيار بالوصول إلى مداه الأقصى ضمن مسار بطيء، وليس محاولة كبحه، إلا أن الخطوة الثانية كانت تعني أنها ستخسر من قدرتها التفاوضية على الإمساك بالسلطة.
انتقلت السلطة من الدعم المستتر للعملة، والدعم الزبائني، إلى الدعم على المكشوف من خلال إنفاق أثمن ما لدى لبنان في ظل إفلاسه


ومع أن هذا الدعم ساهم في تخفيف حدّة الأزمة في بدايتها، لكنه صب في مصلحة فئات من الشعب دون أخرى. فالمستهلك استطاع الحصول على سلع بأسعار منخفضة مقارنة بسعر الدولار في السوق، لكن الكثير من السلع التي أُدخلت إلى البلد بأسعار مدعومة أُعيد تهريبها إلى الخارج. وفي المحصّلة خرجت الدولارات من احتياطيات مصرف لبنان إلى جيوب التجّار الذين تعاملوا بالتهريب إلى الخارج. ومع تبدد الاحتياطات، توقّف مصرف لبنان عن تأمين الأموال للاستيراد بأسعار مدعومة، وحصل شحّ في هذه البضائع، ما ساهم في نشوء سوق سوداء لمعظم السلع الأساسية المدعومة، وموجات انقطاع لهذه السلع من السوق. لذا، هذه المرحلة من الدعم، أي مرحلة بدايات الأزمة، شهدت استفادة متفاوتة منه لفئات المجتمع مقارنة بالاستفادة التي حظيت بها هذه الفئات في مرحلة دعم العملة والقروض ما بين الحرب الأهلية والأزمة الأخيرة.

نسخة متطرفة
مع اقتراب نفاد الاحتياطات، توقّف مصرف لبنان عن دعم سلعة تلو سلعة من السلع التي أقرها بالتعاون مع الحكومة. وكان آخر هذه السلع هي الأدوية والمحروقات. وقد ساهم التوقّف عن دعم المحروقات، بشكل خاص، بتفلّت سعر الصرف في السوق بشكل كبير، بسبب تحوّل الطلب على دولارات المحروقات من مصرف لبنان إلى السوق. هذا الأمر استدعى تدخّل المصرف المركزي مجدداً، لكن هذه المرة عبر العودة إلى دعم العملة. إلا أن دعم العملة هذه المرة أتى بشكل مختلف، لأنه كان دعماً علنياً للعملة، ولم يكن يصب في مصلحة كل فئات المجتمع بشكل متوازي، بل بشكل انتقائي متصل بأصحاب الحسابات المصرفية. فقد اختار المركزي إنشاء منصة «صيرفة» التي قدّم من خلالها الدولارات للمحظيين بسعر أقل من سعر الدولار في السوق.
وينقسم المستفيدون من هذه العملية إلى قسمين:
- موظفو الدولة الذين سمح لهم مصرف لبنان باستيفاء أجورهم عبر منصة «صيرفة» بالدولار بسعر أقل من سعر السوق، وهو ما ساهم بزيادة قيمة أجورهم بنسب تفاوتت مع تغيّر سعر الصرف. فعلى سبيل المثال إذا كان سعر الصرف في السوق 40 ألف ليرة للدولار، وسعر الصرف على منصة صيرفة 30 ألف ليرة للدولار، كان موظّف الدولة يربح ما نسبته 33% من قيمة أجره. إلا أن هذه الاستفادة لم تكن كبيرة، لأن معظم رواتب الدولة لم تكن تتجاوز الـ100 دولار على سعر السوق. وهؤلاء للتذكير، هم أكبر الخاسرين من الانهيار.
- المحظيّون بالاستفادة الحقيقية من دعم العملة بشكله الجديد، من تجار وكل من لديه حساب مصرفي وقادر على تمويله لتنفيذ عمليات أكبر على صيرفة. هؤلاء استفادوا عبر إدخال ودائعهم بالليرة وتحويلها إلى دولار على سعر أقل من سعر السوق بنسبة كبيرة. الفرق بين هذه الفئة المنتقاة، والموظفين، أن الطرف الأسبق كان يتعامل مع مبالغ كبيرة جداً، تبلغ مئات ملايين الليرات. ما يعني أرباحاً بآلاف الدولارات وربما أكثر. في مقابل أرباح لا تتجاوز عشرات الدولارات لموظفي الدولة.
هذه النسخة من الدعم كانت الأكثر تطرفاً في إفادة فئات من المجتمع على حساب آخرين. فمن جهة كان جزء من الدولارات المستخدمة لهذا الدعم مجموعاً من قبل مصرف لبنان من السوق، وهو ما ساهم في ارتفاع سعر الصرف وزيادة التضخّم على كل أفراد المجتمع. ومن جهة أخرى استفادت فئات قليلة من هذه العملية. فباستخدام تعريف فريدمان بأن التضخّم هو نوع من الضريبة، يمكن القول أن مصرف لبنان فرض ضريبة على كل المجتمع، وقام بإعادة توزيع الثروة ليفيد فئة قليلة منه.