إنّ الأزمة المصرفية كانت الحلقة الأخيرة في أزمة متعددة الأبعاد. وبذلك يجب أن تكون هي الحلقة الأولى والمركزية في الحل.على رأس العناصر الرئيسية التي أدّت إلى الإنهيار الاقتصادي والمالي والمصرفي تأتي السياسة النقدية المتمثلة في التثبيت النقدي طويل الأمد واعتماد سعر فائدة مرتفع ربطاً بالتصنيف السيادي للبلد، ولا سيما في المراحل التي شهدت تدفقاً كبيراً للأموال من الخارج، من دون التغافل بطبيعة الحال عن الدور السلبي للسياسة المالية الخاطئة وتعطيل قطاعات الإنتاج فضلاً عن العقوبات الأجنبيّة والعوامل الخارجية الأخرى.
(أرشيف)

الهدف الرئيسي من هذه الندوة، وضع مقاربة عملية لسيناريوهات إعادة هيكلة القطاع المصرفي دون الخوض في غمار احتساب خسائر القطاع المالي والتي قُدّرت بحسب خطة الحكومة الإصلاحية في نيسان 2020 بنحو 240 تريليون ليرة (أي ما بين 70 إلى 80 مليار دولار)، أما التقديرات الصادرة عن جمعية المصارف وبعدها لجنة المال والموازنة فكانت أقل من تلك المذكورة في الخطة.

سيناريوهات إعادة الهيكلة
* السيناريو الأول: خيار الأمر الواقع، أي إعادة هيكلة من دون خطة حكومية إصلاحية ومع تجاهل الحد الأدنى من المعايير الدولية لإدارة المخاطر المصرفية.
يحاكي هذا السيناريو الوضع القائم، والقاضي بتذويب خسائر المصارف التجارية وتصحيح ميزانياتها من دون إصلاحات، وهذا ينطوي على تعدٍ على حقوق المودعين بحرمانهم من سحب ودائعهم بسعر صرف عادل، وإنهاك موازنة مصرف لبنان، وتدمير القدرة الشرائية للمواطنين اللبنانيين.
بدأت فصول هذه العملية مع إصدار مصرف لبنان للتعميم 151 في 21 نيسان 2020 الذي سمح للمصارف تحويل عمليات السحب من ودائع الدولار إلى الليرة اللبنانية بسعر صرف يساوي 3900 ليرة لبنانية للدولار الأميركي الواحد، فيما تراوح سعر الصرف الموازي آنذاك بين 2750 و 4200 ليرة مقابل الدولار. ومع ارتفاع سعر صرف الدولار إلى عتبة 17000 ليرة مقابل الدولار في حزيران 2021، تكبّد المودعون خسائر في قيمة ودائعهم، ما بين نيسان 2020 و حزيران 2021، تقارب 5 مليارات دولار (4.93 مليار دولار)، وتوازي قيمتها نحو 53 ألف مليار ليرة بالليرة اللبنانية حسب سعر الصرف في السوق الحرّة. ويُتوقع أن تكون قيمة خسائر المودعين قد ارتفعت جرّاء عمليات السحب المذكورة إلى نحو 6 مليارات دولار حتى تاريخ أيلول 2021. ونتيجة لهذه السحوبات وما يماثلها من عمليات قامت بها، استطاعت المصارف تحرير ميزانياتها من التزامات تجاه المودعين بالعملات بقيمة تقارب 20 مليار دولار منذ تشرين الأول عام 2019 وحتى الآن.
ويُعدّ مصرف لبنان شريكاً ومتضرراً في آن معاً جراء هذه العملية، إذ إنّه ارتضى على ما هو مُرجّح تحمّل كلفة العمليات المذكورة، والتي تعادل الفارق بين سعر الدولار المحدد بـ3900 ليرة لبنانية لعمليات السحب وسعر 1515 ليرة المعتمد في ميزانيات المصارف والمصرف المركزي، وبذلك يقوم الأخير بخلق نقد مقداره 2400 ليرة مقابل كل دولار يسحبه المودعون، ويدرج ذلك ضمن ميزانيته في بند موجودات أخرى، الذي ارتفعت قيمته من 49 ألف مليار ليرة في نيسان 2020 إلى 80 ألف مليار ليرة نهاية حزيران 2021 ثم إلى 83.7 مليار ل.ل في 31 آب 2021. ومع إضافة البند الآخر في الميزانية الذي يستخدمه مصرف لبنان لإخفاء الخسائر وهو «المقايضة على أوراق مالية وأصول ثابتة» (والذي بقي ثابتاً طوال الفترة المذكورة) يرتفع مجموع خسائر مصرف لبنان حاليّاً إلى نحو 102 ألف مليار ليرة مقابل 68 ألف مليار ليرة في نيسان 2020. وفي نهاية المطاف فإن خسائر مصرف لبنان هي خسائر للاقتصاد عموماً وللدولة اللبنانية على وجه خاص، لأنه ملزم بتحويل 80٪ من أرباحه إلى الدولة بحسب قانون النقد والتسليف. واللافت أنه في الوقت التي لاقت فيه الخطة الحكوميّة للتعافي وحلّ مشكلة الخسائر، معارضة شديدة منعت تطبيقها، مضى مصرف لبنان بكل سلاسة في تنفيذ تصوّره للتعامل مع الأزمة من خلال التعميم 151 وما تلاه من تعاميم زادت الفجوة المالية التي يعاني منها البلد بدلاً من تقليصها. علماً بأن التعميم والخطة المذكورين أُقرّا في التاريخ نفسه تقريباً (نيسان 2020).
أمّا ثالث المتضررين، إلى جانب المودعين ومصرف لبنان، فهم المواطنون الذين فقدوا حتى الآن ما لا يقل عن 70% من قوتهم الشرائيّة نتيجة عمليات المصارف ومصرف لبنان التي ترتّب عليها ضخّ كتلة نقدية بالليرة اللبنانية بقيمة 33,871 ألف مليار ليرة، وقد أدّى ذلك إلى تراجع كبير في قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار، وإشعال فتيل التضخّم، وزيادة مؤشر أسعار الاستهلاك نحو 300٪ ما بين نيسان 2020 وتموز 2021.
تأسيس وكالة مستقلّة ومؤقتة لإعادة الهيكلة (لخمس سنوات مثلًا)، تتولى نيابة عن الدولة إعادة الهيكلة والإشراف على رسملة المصارف


يشار إلى أنّ المصارف كانت الرابح الأكبر من سيناريو الأمر الواقع، إذ زادت أرباحها التي لم تعد تعلن عنها، وأطفأت جزءاً معتدّاً به من خسائرها على حساب المصرف المركزي والمودعين والمستهلكين، وبذلك حافظت نسبياً واسميّاً على رساميلها، التي شهدت انخفاضاً طفيفاً في نسبتها إلى إجمالي ميزانيتها المجمّعة من 9.8% إلى 9.2% خلال المدة المذكورة.
* السيناريو الثاني: تطبيق المعايير الدولية لإدارة المخاطر في القطاع المصرفي من دون خطة إصلاحية.
يفترض هذا السيناريو التطبيق الكامل لمعايير بازل 3 (كفاية رأسمال) والمعيار الدولي للتقارير المالية رقم 9 (IFRS9) (المتعلق بتكوين المؤونات ضد المخاطر الفعليّة والمتوقعة)، وأيضاً من دون خطة إصلاحية. وفي حال تطبيق هذه المعايير من دون تعديل، تُلزَم المصارف بتكوين مؤونات تساوي على أقل تقدير مرّة وربع من رساميلها الحالية، وهذا مع الأخذ بالحسبان الموجودات الثابتة والأصول العقارية المسجّلة في ميزانياتها (بقيم مضخّمة على الأرجح)، ما يملي على المصارف إعادة تكوين رساميلها، مع مؤونات إضافيّة.
* السيناريو الثالث: إعادة هيكلة ضمن خطة حكومية إصلاحية ومواءمة المعايير الدولية لإدارة المخاطر مع الوضع الحالي. ينطوي هذا السيناريو على إعادة الهيكلة ضمن خطة حكومية وإصلاحية، تبدأ فصولها بإعادة تحديد دور المصارف في الاقتصاد وحجمها قياساً عليه. وذلك على نحو متزامن ومترابط مع إعادة هيكلة ديون الدولة ومعالجة الخلل في ميزانية مصرف لبنان. وبذلك يكون الهدف: إعادة تكوين رساميل المصارف وفق حجمها الجديد، وردم الفجوة في ميزانية مصرف لبنان، وتحقيق الاستدامة في إدارة الدين العام في مدة زمنيّة معقولة (5 سنوات مثلاً).
وفي إطار هذا السيناريو، يفترض العمل على الآتي:
- تعبئة الموارد اللازمة لتمكين مصرف لبنان من استعادة دوره في إدارة سياسة نقدية فعّالة، وتخفيف خسائره تدريجياً بالاستفادة من الأفكار المطروحة للتمويل (مثلاً من خلال إيرادات شركة إدارة الأصول العامة الواردة في خطة التعافي 2020)، وصولاً إلى تحقيق مركز إيجابي صافي لاحتياطياته الدوليّة على المدى الطويل، مع إمكانية السماح بخسائر محدودة القيمة تُذوّب تدريجيّاً.
- تحديد الحجم الأمثل لميزانية مصرف لبنان بحيث تتراوح بين 30% و50% من الناتج المحلي الإجمالي (لا تتعدى النسبة مثلاً 52% في الأردن و33% في مصر).
- تعديل قانون النقد والتسليف بحيث ينص على:
* أن تساوي مطلوبات مصرف لبنان بالعملات موجوداته منها عدا التوظيفات الإلزامية.
* الفصل التام بين مهمة إدارة السياسة النقدية التي تبقى بإدارة مصرف لبنان من ناحية ومهام الرقابة والتحقيق التي تتولاها جهات مستقلة من ناحية ثانية. أي بقول آخر ضمان الاستقلال التام للجنة الرقابة على المصارف وهيئة التحقيق الخاصة سواء ضمن مصرف لبنان أو خارجه.
* حصر عملة الإقراض التي تتولاها المصارف بالليرة اللبنانية إلّا لأغراض محدّدة كتمويل الاستيراد.
* وضع سقوف وشروط على تمويل المصرف المركزي لعجز الخزينة.
- خفض حجم القطاع المصرفي في إطار إعادة الهيكلة، إلى النصف قياساً على الناتج المحلي الإجمالي، وتحديد عدد المصارف التجارية والاستثمارية والمتخصصة المناسب لحجم السوق وحاجات الاقتصاد.
- وضع معايير إعادة هيكلة المصارف آخذاً بعين الاعتبار الأمور الثلاث الآتية:
1- حفظ حقوق المودعين كافة وبكل فئاتهم مع التمييز بين الحق الأساسي والفوائد.
2- مراعاة المعايير الدولية (بازل 3 وIFRS9...)، شرط أن يجري تكييفها مع خصوصيّة الأزمة المصرفيّة في لبنان وتداخل المسؤوليات بشأنها.
3- حجم القطاع المطلوب وعدد المصارف المستهدف، بحيث لا تسفر إعادة الهيكلة عن تجاوز الحجم والعدد المحددين أو التدني عنهما.


من يدير إعادة الهيكلة؟
ينطلق هذا السؤال من الحقيقة المتمثلة في أنّ السلطة النقدية المفترض أن تُدير عمليات الإنقاذ المصرفي، هي جزء من الأزمة ومسؤولة عنها، وتحتاج إلى تصحيح. وهذا ما يضع بين أيدينا الخيارات الآتية:
الخيار الأول: أن تؤدّي كل مؤسّسة من المؤسّسات المعنية بإعادة الهيكلة دورها بمعزل عن غيرها (المصرف المركزي، الحكومة، مجلس النواب، لجنة الرقابة، هيئة التحقيق الخاصة...)، سواء أثناء التفاوض مع صندوق النقد والدائنين والجهات ذات الصلة، أو عند وضع إجراءات إعادة الهيكلة موضع التطبيق. وقد شهدنا خلال المدة الماضية، فشل هذا الخيار وكلفته الباهظة.
الخيار الثاني: إيجاد إطار تنسيقي بين المؤسسات المذكورة مع حفاظ كل واحدة منها على صلاحياتها واستقلاليتها، وهذا قد يلاقي نفس مصير الخيار السابق.
الخيار الثالث: تأسيس وكالة مستقلّة ومؤقتة لإعادة الهيكلة (لخمس سنوات مثلاً)، تتولى نيابة عن الدولة إعادة الهيكلة والإشراف على رسملة المصارف، والتمييز بينها على أساس قدرتها على الاستمرار من عدمه، وفصل الأصول الجيدة عن الأصول الرديئة، وتعزيز الإدارات الداخليّة المتخصّصة بالمخاطر في المصارف...
هناك ضرورة أن يكون الحل تفاوضيّاً للوصول إلى توزيع عادل وفعّال للخسائر، ولا يغضّ النظر عن تحويل الخسائر الجاري حاليّاً، كما لا يستقوي بسياسات الأمر الواقع التي يديرها مصرف لبنان وتستفيد منها المصارف أيّما استفادة. اقترح إيقاف التحويل العشوائي وغير المنصف للخسائر من المصارف إلى المودعين والمستهلكين والدولة، وذلك بأن يُفرض على المصارف، تسديد سحوبات المودعين بالدولار بحسب سعر السوق الحرّة، مع إمكانية وضع سقوف عليها للتحكم بنمو الكتلة النقديّة.

* رئيس المركز الإستشاري للدراسات والتوثيق