«التحوّط» هو وسيلة لتقليل مخاطر عمليات البيع والشراء. فمثلاً، المزارعون الذين ينتظرون اقتراب حصادهم، لا يكونون متأكدين من السعر الذي سيحصلون عليه في السوق: هل سيحصلون على سعر يؤمّن لهم الأرباح والمعيشة للعام المقبل أم أنهم سيعيشون في فقر لسنة مقبلة؟ لتقليل هذه المخاطر، تعرض شركات التحوط (hedge companies) شراء محصول هؤلاء المزارعين بسعر ثابت مقدَّماً، فيضمن المزارع السعر والدخل مهما كان سعر السوق عندما يحين وقت الحصاد. صندوق التحوط يخاطر مقابل احتمال تحقيق الربح، بشراء المحصول مسبقاً بسعر أقل من سعر السوق النهائي. بهذه الطريقة، يمكن أن يخفف «التحوط» من تقلّبات الأسعار التي غالباً ما تكون مرتفعة جداً في قطاعات الزراعة والمعادن.لكن هذا المفهوم يختلف في الأسواق المالية حيث تلعب هذه الصناديق وعملياتها وظيفة جديدة كلياً. فقد أصبح الأمر بمثابة لعبة وسط مليارات من أموال المدخرات على المحكّ. هذا الأمر حوّل سوق السلع والخدمات إلى كازينو للمراهنات المالية. سابقاً، أوضحتُ ما أطلق عليه ماركس وإنغلز مصطلح «رأس المال الوهمي»، أي أن الأسهم والسندات، وقيمتهما المفترضة لا علاقة لهما بالقيمة الحقيقية للأرباح والأصول الأساسية للشركات. فالتحوّط المالي (في الأسواق المالية) يبتعد عن القيم الحقيقية. صناديق التحوّط لا تشتري وتبيع الأسهم فقط بدلاً من الاستثمار في رأس المال المنتج، بل تراهن على اتجاه أسعارها أيضاً. ففي حالة «البيع على المكشوف» (short selling)، يقترض صندوق التحوّط أسهماً لشركة من مستثمرين آخرين مقابل فائدة محدّدة (مثلاً تُباع الأسهم في السوق بسعر 10 دولارات للسهم)، ثم ينتظر حتى ينخفض السعر إلى 5 دولارات فيشتري مرّة أخرى. ويتم إرجاع الأسهم المقترضة إلى المالك الأصلي فيحقّق صندوق التحوّط أرباحه بهذه الطريقة.


وبدلاً من توظيف عملية التحوّط لخفض تقلّبات الأسعار، تسعى صناديق التحوّط للازدهار عبر زيادة التقلّبات. تدير عمليات الصندوق بالمراهنة وفق توقعات انخفاض الأسعار أو ارتفاعها. غالباً ما يكون «الشراء» لرفع السعر و«البيع» لخفضه. بذلك، يمكن لعمليات «البيع على المكشوف» أن تؤدي إلى إفلاس الشركات، وينعكس ذلك فقداناً للوظائف وهبوطاً في المداخيل.
في عام كوفيد-19 بينما انهار «الاقتصاد الحقيقي»، فإن أولئك الذين لديهم أموال نقدية يبحثون لها عن عائدات مثل المصارف وصناديق التقاعد والمستثمرين الأثرياء، استثمروا بكثافة في الأسواق المالية، عبر التعامل بالأموال المقترضة بمعدلات فائدة قريبة من صفر في المئة. وكبار المستثمرين يضعون الكثير من أموالهم في صناديق التحوّط معتمدين على مديري هذه الصناديق الذين يطلق عليهم صفة «الأشخاص الأذكياء»، لجني الأرباح لهم. لكن في السنة نفسها، كان هناك ملايين الأشخاص الذين يعملون من منازلهم ولديهم مدّخرات لا يمكن إنفاقها بسبب الإغلاق ومنع السفر... الكثيرون تواصلوا على شبكات التواصل مثل Reddit، للمراهنة في سوق الأسهم. هؤلاء هم مستثمرون صغار اندمجوا من أجل بناء بعض القوّة الجماعية لمواجهة المؤسّسات الكبيرة في أوكار المقامرة الخاصة بهم.
ومنذ مطلع السنة الجارية، كانت مجموعة من المتداولين الهواة، الذين ينظّمون أنفسهم على موقع Reddit، يستثمرون في السوق المالية ضد صناديق التحوّط الرئيسية التي راهنت ضد أسهم شركة GameStop من خلال «بيع أسهمها على المكشوف». هذه الشركة الأميركية تعمل في مجال بيع ألعاب الفيديو، وقد عانت بشدّة في عام 2020 إلى درجة أنه كان يتوقع انهيارها، ما دفع صناديق التحوّط إلى التهافت للمراهنة ضد سهمها.
لكن المستثمرين الصغار فعلوا العكس. استخدموا قوّتهم الجماعية لرفع سعر هذا السهم، ما أجبر صناديق التحوّط المدعومة من المصارف والمؤسّسات الكبرى، على إعادة شراء الأسهم بأسعار أعلى مع نفاد وقت رهاناتهم من خلال «البيع على المكشوف»، إذ إن هذه العملية هي عبارة عن عقود ذات مدد زمنية محدّدة. وبذلك تعرّض العديد من الصناديق لخسائر فادحة بلغت قيمتها الإجمالية 13 مليار دولار، حتى أن أحد مستثمري أحد الصناديق ضخّوا 2.75 مليار دولار لإنقاذه.
«وول ستريت» غاضبة. كبار المتعاملين فيها يصرخون محرضين المدخرين: لقد «زوّر» صغار المستثمرين السوق، وهم يهدّدون قيمة صناديق معاشات التقاعد الخاصة بكم، ويعرّضون المصارف للخطر...
هذا كلام فارغ، بطبيعة الحال. في الواقع، ما يظهره هذا الأمر هو أن الأسواق المالية «مزوّرة» من قِبل كبار المستثمرين. أما الصغار فهم عادةً الذين يتم خداعهم في وكر المقامرة هذا. كما قال ماركس، فإن النظام المالي «يحفّز دوافع الإنتاج الرأسمالي»، أي «الإثراء عن طريق استغلال قوة العمل، في أوضح وأكبر نظام للمقامرة والخداع، وهذا النظام يختصر عدد مستغلي الثروة الاجتماعية».
ما تظهره قصة سهم GameStop هو أن صناديق التقاعد التي يديرها «الأشخاص الأذكياء» هي في الحقيقة سرقة لمدّخرات العمال والمطلوب معاشات تقاعدية مموّلة من الدولة لا تخضع لتقلّبات اللعبة المالية


بالطبع، في نهاية المعركة الحالية ستكون الخسارة من نصيب المستثمر الصغير. لقد طالب ويليام غالفين، وهو وزير في ولاية ماساتشوستس، بورصة نيويورك، بتعليق التداول بسهم GameStop لمدة 30 يوماً، لإتاحة فترة تهدئة. وقال: «هذا ليس استثماراً، هذه مقامرة». بالفعل، يشهد صغار المستثمرين زيادة في الرسوم والقيود المفروضة على تداولاتهم من قِبل الوسطاء وصنّاع السوق (مالكي الكازينو) لردعهم عن التداول. وهناك حديث عند أصحاب القرار يوحي باللجوء إلى «تنظيم» السوق لمنع المستثمرين الصغار من «التكتل» في مواجهة المؤسّسات «الشرعية» في وول ستريت. والنتيجة أن سعر GameStop يتراجع الآن.
بالنسبة إلى العمال، قد تبدو كل هذه الخدع غير ذات صلة بهم. فإن معظم الأسر العاملة لديها القليل من الأسهم أو أنها لا تملك شيئاً منها على الإطلاق. إذ تملك 10% من الأسر الأغنى ما نسبته 93% من ثروة سوق الأسهم الأميركية، ومن بين هؤلاء 1% يمتلكون 53% من هذه الثروة. أما أفقر 90% فيمتلكون 7% فقط من ثروة هذه السوق. ومع ذلك، فإن معاشات العمال وحسابات التقاعد، إذا كانوا يمتلكونها، فإن استثمارها يتم من مديري صناديق التقاعد الخاصة في الأصول المالية الذين يتقاضون عليها حسم عمولات كبيرة. لذا فإن المدخرات التي تمتلكها الأسر العاملة معرضة لأنشطة المقامرة التي يقوم بها المحتالون في الكازينو المالي - كما أظهر الانهيار المالي العالمي في عامي 2007-2008.
ما تظهره هذه القصة القصيرة لسهم GameStop هو أن صناديق التقاعد الشخصية والمؤسّساتية التي يديرها «الأشخاص الأذكياء»، هي في الحقيقة سرقة لمدخرات العمال. المطلوب هو معاشات تقاعدية مموّلة من الدولة، لا تخضع لتقلّبات اللعبة المالية. وقد تم «حرق» صناديق التحوّط الكبيرة، في المناوشات الأخيرة، من قبل بعض المستثمرين الصغار، وهم يريدون الآن إخراج هؤلاء المستثمرين من اللعبة، فما يجب أن يسعى إليه العمال هو إيقافها تماماً.

* نُشر هذا المقال على مدونة مايكل روبرتس thenextrecession.wordpress.com، في 28 كانون الثاني 2021

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا