بداية، وقبل أن ينتقدني الراديكاليون، الحقيقيون منهم والمستجدون: أقسم إني أتمنى أن ترحل هذه السلطة، بموالاتها ومعارضتها، والتي حكمتنا أوليغارشياً واحتكارياً وكارتيلياً ومافياتياً وطائفياً واستغلالياً منذ الاستقلال، ما عدا بضعة أشهر من هنا أو هناك، أريدها أن ترحل. أريد دولةً علمانيةً، دولة المساواة بين جميع المواطنين والعدالة لهم، بغضّ النظر عن دين ومنطقة أو طائفة. هذا حلمي وأملي وأعمل عليه كل يوم، وإن اختلفت وسائلي عن وسائل غيري.أما بعد، وفي انتظار تحقيق هذا الحلم الذي قد يطول نظراً إلى أنّ اللبنانيين لا يزالون في مرحلة وعي ما هم فيه، ولم يصلوا بعد إلى مرحلة وعي أسباب ما هم فيه، وبالتالي العمل على تغييره فعلياً والانتقال من مرحلة ردّ الفعل إلى مرحلة الفعل. وفي ظلّ الأوضاع الاقتصادية الرديئة التي نعيشها، لا بدّ من نقاش هادئ يطال فئة معينة من الشعب إلّا أن انعكاساته تطال الجميع.
منذ بداية الأزمة النقدية منذ نحو عشرة أشهر، فقد الناس الثقة تماماً بالقطاع المصرفي أولاً وبالليرة ثانياً. فاقم هذا الوضع الضغوطات المحلية والدولية التي انعكست تذبذباً على سعر صرف الليرة، وإن كان الاتجاه الطويل المدى هبوطاً. هكذا عمد اللبنانيون إلى إخراج ما أمكنهم من المصارف في اتّجاهين: إمّا إلى الخارج، وهم قلّة، وإما إلى تحت الوسائد وهم أكثرية. ومن لم يخرج مالاً فإنه بالتأكيد لم يودع المصارف غيره.
يطرح هذا الواقع عدداً من الإشكاليات:
1. اشكالية أمنية تتمثل في ازدياد حالات السرقة بسبب عوز البعض ومعرفتهم بأن البعض الآخر يحتفظ بأموال في المنازل.
2. زيادة ترهّل القطاع المصرفي الذي تتناقص موجوداته يوماً بعد يوم، وهو لذلك، ولعدم رفده بالسيولة من المصرف المركزي وهو المقترض الأول، عمد إلى تقنين خانق على أموال المودعين وصل إلى حدّ الاستيلاء على الأموال بشكل تام، ما يعدّ سرقة موصوفة أفقدت المودعين الثقة بالقطاع كاملاً ومنعتهم من إيداع حالي أو مستقبلي للمال.
3. تدهور الاقتصاد الذي كان يعتمد أصلاً على المصارف والخدمات.
لذا، أصبح ضرورياً التفكير جدياً بخطوات فعّالة للنهوض بالاقتصاد. وبما أن رأس المال جبان، فإنه يصبح من الصعوبة أن نجد أثرياء البلد، وهم ليسوا قلة، على استعداد أن يوظفوا أيّ رأس مال في مشاريع ذات منفعة واسعة وربح قليل، وإلا كانوا قاموا بذلك منذ عقود، وأضعف الإيمان منذ أشهر.
منذ بداية الأزمة النقدية قبل 10 أشهر، فقد الناس الثقة بالقطاع المصرفي أولاً وبالليرة ثانياً


وهنا أسأل السؤال التالي: ما المانع في أن يقوم المواطن، القادر، بإنشاء مشروع إنتاجي يعود بالنفع عليه لاحقاً وبالنفع على المجتمع أولاً.

كيف يكون هذا النفع؟
1. من خلال إنتاج سلع زراعية وصناعية تحويلية وحرفية وصولاً إلى سلع معرفية (برامج إلكترونية) وصناعات أكثر تطوراً.
2. من خلال توظيف يد عاملة محلية وخاصة في ظل البطالة التي تتفاقم يوماً بعد يوم.
3. من خلال تخفيف الاستيراد وبالتالي الطلب على العملة الأجنبية، وصولاً إلى اكتفاء ذاتي ببعض السلع وانتهاءً بالتصدير في المراحل اللاحقة.
4. ربحية ومردود على أموال المستثمرين الذي فقدوا الريع على أموالهم.

كيف يكون هذا الاستثمار؟
بعد أن فقدنا الأمل من المتمولين، وبالتأكيد من القطاع الرسمي والدولة، يبقى السبيل الوحيد إلى ذلك من خلال الاستثمارات الصغيرة، الواسعة النطاق. يمكن أن يحصل ذلك بطريقتين:
الأولى تتم من خلال اجتماع مجموعة من المستثمرين على مشروع واحد محدد، كأن يقوم مئة مواطن باستثمار مليون دولار في مشروع محدد، وتكون له الانعكاسات المذكورة أعلاه.
الثانية تقوم على تأسيس صناديق استثمارية بحيث يوظف كل مواطن مبلغاً محدّداً من المال توزّع على عدد من المشاريع، وفي نهاية كل سنة مالية يتقاسم المستثمرون الربح أو الخسارة.
في المحصلة، لن تقوم قائمة هذا البلد إلا بتكافل أبنائه، وما أبعد هذا التكافل حين يتهافت المواطنون لشراء حفنة من الدولارات ليحقّقوا فيها مربحاً وهمياً ببضع ليرات سرعان ما يتبخر بعد أيام، كمن يشرب ماء البحر من شدة الظمأ.
قد تطول الأزمة، وقد تقصر، إلّا أن المؤكّد أن النظام الاقتصادي الريعي انهار إلى غير رجعة، وأن الاعتماد الحصري على السياحة والخدمات أثبت عدم صحته في أكثر من مناسبة. وعليه لا بدّ من التحول إلى نظام إنتاجي يقوم على تكافل الجميع لأن فيه مصلحة للجميع.

* أستاذ الديموغرافيا في معهد العلوم الاجتماعية - الجامعة اللبنانية