إذا أردت عرض الأزمات التي مرّت على لبنان، يتبادر إلى الذهن ثلاث أزمات رئيسية، هي: أزمة إفلاس بنك إنترا عام 1966، التي نتجت من انخفاض سيولة البنك على الرغم من جودة موجوداته، بسبب امتناع مصرف لبنان عن مساعدته، وهو ما تبعها إفلاس نحو 20 مصرفاً لبنانياً وانكماش الاقتصاد لنحو سنتين متتاليتين. تليها أزمة ثانية تمثّلت بهبوط سعر صرف الليرة في النصف الثاني من الثمانينيات نتيجة المضاربات التي قادتها المصارف، ما أدّى إلى انهيار بعض المصارف الصغيرة بسبب انخفاض قيمة الديون في محفظاتها، إذ إن أغلب هذه الديون كانت بالليرة اللبنانية. وحينها لم يتمكّن مصرف لبنان من حماية الليرة بسبب تراجع احتياطاته الأجنبية، نتيجة دفع ثمن صفقة سلاح مع أميركا بأكثر من مليار دولار نقداً، وتمويل الحرب التي قادها الجيش اللبناني ضدّ الضاحية الجنوبية في تلك الفترة.
أمّا الأزمة الثالثة، فهي التي نعيشها حالياً، والتي يمكن القول إنها أكبر أزمة تمرّ على لبنان، نتيجة العجوزات الكبيرة المُسجّلة في ميزان المدفوعات والميزان التجاري. أخذت الأزمة بالتفاقم مع بدء الحرب السورية في عام 2011، علماً بأنّ محاولات المعالجة، بما سُمّي الهندسات المالية، أسهمت بمفاقمة الوضع والوصول إلى الحالة الانكماشية التي نمرّ فيها اليوم وكلّ المخاطر المترتبة عنها. فهذه الهندسات صبّت في مصلحة القطاع المصرفي، إذ أمعنت بسياسة الفوائد المرتفعة وطبع العملة، قبل أن تتبع بسياسة حبس السيولة، ما أثر سلباً بمعدّلات النمو.
لكن في الواقع، لا يمكن ربط الأزمة الراهنة بالهندسات المالية فقط، وبالتالي فصلها عن مسار طويل بدأ في عام 1992. عملياً، أطلقت أزمة الثمانينيات المسار الانحداري لليرة اللبنانية وصولاً إلى الانهيار الأكبر والمُفتعل في عام 1992، والذي جيئ، على أثره، بالرئيس رفيق الحريري منقذاً للبلاد بعد الزلزال الاجتماعي الكبير وارتفاع معدّلات الفقر وانخفاض القدرة الشرائية للرواتب ومعاشات التقاعد، واضطرار الناس إلى التخلّي عن أصولهم العقارية بأبخس الأسعار.
أسهم هذا الزلزال بتسهيل تنفيذ الرؤية الاقتصادية التي أتى بها الرئيس رفيق الحريري، والتي تستند إلى شراء العقارات بأبخس الأسعار لإطلاق عملية الإعمار وإعادة لبنان إلى دوره قبل الحرب كمركز مالي وخدماتي للشرق الأوسط. إلّا أنّ ما فات رؤية النظام الجديد، أن اقتصادات المنطقة تطوّرت، فيما كان لبنان غارقاً بحروبه، وبالتالي لم تعد بحاجة إليه.
بدأت معاناة الاقتصاد اللبناني منذ رفع معدّلات الفائدة على سندات الخزينة بالليرة إلى مستويات عالية جدّاً. وقامت تلك اللعبة على استدانة الدولار بفوائد راوحت بين 5-6%، وتوظيفها في سندات الخزينة بفوائد وصلت إلى 40%. ومع اتباع سياسة تثبيت سعر الصرف، تأسّس نظام المضاربة، المستمرّ حتى اليوم، إذ كانت عملية تحويل الأرباح الناجمة عن الاستثمار بالدَّيْن العام، من الليرة إلى الدولار، تجري بسهولة ودون أي مخاطر. لقد خرجنا من الحرب بمديونية متواضعة لا تتعدّى ملياراً ونصف مليار دولار، إلّا أنها اليوم، بعد أكثر من ربع قرن من وقف الحرب، تتجاوز 80 مليار دولار. درّت هذه اللعبة أرباحاً طائلة على أصحاب الرساميل، لكن على حساب النشاط الاقتصادي، وهو ما ندفع ثمنه اليوم، وما أجبرنا في فترات سابقة على طلب المساعدة من خلال سلسلة مؤتمرات باريس.
حالياً يعاني الاقتصاد من عبء قطاع مصرفي يتجاوز حجمة 5 مرّات حجم الناتج الوطني، ومن نزف متواصل بميزان المدفوعات وعجز متمادٍ في الميزان التجاري، وهو ما يلجم النشاط الاقتصادي في لبنان، ويُسهم بحلقة الانكماش المتواصلة التي يعاني منها، ويفسّر سياسة الفوائد العالية المتبعة.
تعدّ هذه الظروف الأسوأ على الإطلاق. المخرج مُتاح منها ولكن تشوبه صعوبات. إذ يفترض الخروج من الأزمة إعادة النظر بكل السياسات الاقتصادية والنقدية والمالية المعمول بها منذ عهد الرئيس رفيق الحريري وحتى اليوم، والبدء بوضع مقوّمات قيام نظام إنتاجي بديل.
ويتطلّب الأمر اهتماماً بالاقتصاد الحقيقي، ولا سيّما قطاع المعلوماتية الذي يبرع فيه العنصر الشاب اللبناني ولديه نجاحات لافتة فيه، وقطاع السياحة الداخلية عبر إنشاء مرافق سياحية صغيرة تستقبل العديد من اللبنانيين. بالإضافة إلى الاستثمار بالإمكانات الزراعية والصناعات الخفيفة، مع ما يفرضه ذلك من مكافحة التهريب، وإعادة العلاقات بين لبنان وسوريا إلى سابق عهدها، بما يسهّل دعم هذين القطاعين وتسهيل تصريف إنتاجهما. إلّا أن ذلك لا يكفي دون إعادة النظر بالسياسات النقدية، وهو ما يستوجب وقف الهندسات المالية وسياسة الفوائد العالية التي لا تصبّ إلّا في مصلحة النظام المصرفي، بالإضافة إلى تخلّي المصرف المركزي عن الشركات التي يملكها خلافاً للقانون، ولا سيّما شركة طيران الشرق الأوسط، لما لذلك من أثر في تحرير إيرادات هذا القطاع وضخّها في الاقتصاد، فضلاً عن تشجيع عمليات دمج المصارف، والعودة إلى تطبيق القوانين وتفعيل عمل مفوضية الحكومة لدى البنك المركزي لمراقبة أعماله، ذلك بعد أن اختفت من الوجود.