وعليه، يطرح سؤال عن أسباب نمو الظاهرة الإرهابية في المناطق «السنية» تحديداً، وغياب التمرد المسلح ضدّ الدولة في المناطق «الشيعية». يشدد العلي، عند مقاربة هذا الموضوع، على ضرورة «التمييز بداية بين القطاع الأوسع من المجتمع العراقي من جهة، والنخبة السياسية من جهة أخرى. القطاع الأوسع من المجتمع في المناطق الشيعية والسنية لا يعير اهتماماً للمسألة الطائفية. لقد اعتبر البعض أن المناطق السنية بغالبيتها أيّدت داعش، وشاركت في عملياته لأنها تريد عودة نخب سنية لحكم العراق، والخلاص من سيطرة الأحزاب الشيعية. هذه السردية لا علاقة لها البتة بما تقوله الغالبية العظمى من الناس، من مختلف الفئات الاجتماعية، في الموصل وصلاح الدين والأنبار. منذ عام 2003، التقيت بآلاف الأشخاص في أرجاء هذه المناطق. العراقيون بصورة عامة، في هذه المناطق وفي غيرها، يميزون بين الشعب وبين النخبة السياسية والعسكرية والأمنية». يضيف العلي، تالياً، أن «العراق محكوم من قبَل نخب فاسدة ومجموعات من أصحاب الرساميل، من خلفيات مختلفة، شيعية وسنية وكردية، وكذلك بينهم العلماني وحتى الملحد. أطراف هذه النخبة يتنازعون للحصول على حصص أكبر من السلطة ومن ثروات العراق. وإذا أحسّ أحد هؤلاء الأطراف بأنه لم يحصل على النسبة التي يستحق، لا يتورع عن استخدام الطائفية للوصول إلى مبتغاه. قسم من هؤلاء الأطراف اندرج في مخططات إقليمية ودولية، وشارك في عمليات تمرد ضد الحكومة في بغداد، انطلاقاً من الحسابات المذكورة. أما الحكومة في بغداد، فهي ليست مضطرة إلى تشكيل مجموعات مسلحة لتحقيق غاياتها، لأن لديها ما يكفي من القوة والقدرة على استخدام العنف عبر سيطرتها على الشرطة والجيش. تتنازع النخب على السلطة والثروة، والشعب هو الذي يدفع الثمن».
المواطن العراقي العادي لا يأبه للهوية الطائفية لرئيس وزرائه
ولكن ماذا عن الخلفيات الاقتصادية والاجتماعية؟ يلفت العلي إلى أن «الفقر يتزايد باطراد في العراق، ولا وجود لفرص العمل بالنسبة إلى أعداد ضخمة من الشباب (سنوياً، يبلغ نحو 200000 عراقي سن الرشد)»، مضيفاً أن «هناك أيضاً مسألة في غاية الخطورة، وهي التغيّر البيئي، إضافة إلى عدم وجود كهرباء في الكثير من المناطق الزراعية، وتهريب كميات ضخمة من المنتجات الزراعية من خارج العراق إليه بسبب عدم ضبط الحدود، (كلها عوامل) ضاعفت من صعوبة ظروف عيش الفلاحين». ويتابع أن «الدولة العراقية لا تدعم بشكل عام المزارعين، على الرغم من وجود بعض الاستثناءات في السنوات الأخيرة. العراق في الماضي كان من بين أكبر مصدّري التمر في العالم، وبات اليوم يستورده من السعودية وإيران ودول أخرى. التمر العراقي لا يستهلك لعدم وجود كهرباء في المزارع، وانخفاض أجور الفلاحين، وارتفاع أكلاف العيش. العديد من المناطق أصبحت مهجورة وتصحّرت. هذا حال المناطق الزراعية في صلاح الدين التي كانت بين الأغنى في الماضي، وأضحت صحراوية الآن، وهاجر سكانها أو هم يقبعون فيها على حافة المجاعة أو يبحثون عن لقمة العيش بشتى السبل القانونية وغير القانونية».
في تحليله لكيفية استفادة «داعش» من ذلك الواقع، يرى أن «الدواعش، الذين لديهم شبكات محلية، فهموا الأوضاع في المناطق الزراعية، وسعوا لاستقطاب الناس فيها، وشجّعوهم على التحول إلى مقاتلين ليسيطروا في ما بعد على المدن. لقد لاحظنا في تكريت والموصل مثلاً، بعد سيطرة داعش عليهما، أن لهجات المسلحين العراقيين ريفية». يضيف أنه «قبل سيطرتهم على المدن عام 2014، كانوا ينتظرون العواصف الرملية التي تضرب المدن والمناطق الريفية التي لديها تأثير كبير على أوضاع الناس، وحتى على قدرتهم على التنفس. أهل المدن لديهم عادة وسائل لمواجهة مثل هذا الظرف ولعلاج أنفسهم على عكس أهل الريف. كان الدواعش يأتون إلى الريف لمحاولة كسب المؤيدين، ولدينا عدد كبير من الشهادات التي تفيد بذلك». ينبّه العلي إلى أن «هذه الظروف ما زالت موجودة اليوم، بل هي زادت سوءاً لأن التغير البيئي في العراق يتعاظم، فمستويات المياه تنخفض نتيجة للسدود التركية. وإذا أضفنا إلى ذلك ارتفاع درجات الحرارة الكبير (50 درجة في حزيران)، وانقطاع الكهرباء (في محافظة كربلاء مثلاً يتوافر التيار لمدة ثلاث أو أربع ساعات يومياً)، نصل الى استنتاج أن البنية التحتية في العراق متداعية وخدمات الدولة غير متوافرة». وعليه، فإن «الفشل في بناء مؤسسات الدولة، قبل أي اعتبارات أخرى، هو الذي يفسر نمو هذه المجموعات. المواطن العراقي العادي لا يأبه للهوية الطائفية لرئيس وزرائه. ما يهمه هو تحسّن الأوضاع الأمنية والاقتصادية والخدماتية في بلاده».