لا يمكن لمن يتتبّع حراك زعيم «تيار الحكمة»، عمار الحكيم، منذ صدور نتائج الانتخابات النيابية في أيار/ مايو 2018، إلا أن يستشعر أن الرجل يحاول «التلاعب» بشريكه في تحالف «الإصلاح» مقتدى الصدر، واتخاذه مطية لبناء «مجد سياسي» لا يزال مستعصياً. محاولات تتبدّى في خلفيتها رؤية الحكيم للمرحلة المقبلة في العراق، والتي يرى أن الكلمة فيها ستكون لـ«التيارات المدنية»، التي ـــ لا على سبيل المصادفة طبعاً ـــ تحظى برضا واشنطن وعواصم الخليج ودعمها المالي والإعلامي.لم يكن مفاجئاً لكثيرين إعلان عمار الحكيم، في تموز/ يوليو 2017، انشقاقه عن «المجلس الأعلى الإسلامي»، وتأسيسه «تيار الحكمة». الزعيم الشاب، ذو الـ47 عاماً، أراد البحث عن هوية ضائعة في التنظيم الأمّ. مِن موقعه كوريث سياسي لآل الحكيم، سعى إلى تأسيس تنظيم «معاصر»، وفق ما يقول المقرّبون منه، يمزج بين رؤية والده عبد العزيز (الذي ورث عن أخيه محمد باقر زعامة «المجلس الأعلى») من جهة، ورؤيته الشخصية المتمحورة حول «منح الشباب فرصة في الطرح والتنفيذ». لم يستسغ قادة الصف الأول في «المجلس» طروحات الزعيم الشاب، خصوصاً أن الأخير عمد إلى إقصاء بعض «القادة التاريخيين» لمجرّد معارضتهم إياه.
على دفعتين، سافر مُمثِّلو الجناحَين المتخاصمَين إلى طهران. التقى كلّ من الفريقَين المسؤولين هناك، حيث أسمعهم فريق الحكيم تمسّكه بخيار الانفصال، فيما راوح طرح الآخرين بين توحيد الجناحَين وفصل الحكيم. أيام قليلة وعاد الوفدان على أمل فتح صفحة جديدة، لكن الحكيم فجّر قنبلته مُعلِناً «تيار الحكمة». انتقل إلى التيار الجديد القادة الشباب، أما أتباع محمد باقر فظلّوا في «المجلس». يقول البعض من معارِضي عمار إن «المجلس» ثابت على مبادئ أرساها محمد باقر ومِن خلفه عبد العزيز، أما «الحكمة» فـ«يستمدّ ادّعاء الانتماء إلى مبادئ الحكيمين من اسمه وزعيمه، إلا أن الشعارات المرفوعة، وطرق تطبيقها، على النقيض من رؤية شهيد المحراب وعزيز العراق».
من وجهة نظر الحكيم، الذي عمد أثناء تولّيه زعامة «المجلس» إلى تعزيز علاقاته محلياً وإقليمياً ودولياً (علماً بأنه ورث قنوات اتصال مع الأميركيين عن أبيه)، فإن المرحلة المقبلة هي «مرحلة انتقالية»، من «تيارات الإسلام السياسي، إلى تيارات مدنية وعابرة للطائفية وشبابية»، وفق ما يقول مُقرّبون من الرجل، مشيرين إلى أن واشنطن وطهران، كلتاهما، في طور إعداد رؤى لتلك المرحلة، و«على القوى المحلية الاستعداد لذلك». من هنا، بدا للحكيم أن تغيّراً ما يلوح في الأفق، وأن عليه أن يكون حاضراً، لا في شكل القالب الذي سيظهر فيه فقط، بل أيضاً في الديناميات المطلوبة بعد المخاض العسير الذي عاشه العراق إبان الحرب على «داعش».
أواخر عام 2016، طرح الحكيم مشروع «التسوية الوطنية» (الذي رفضه بعض قادة «المجلس»). متأّثراً بالتجربة اللبنانية، بحسب ما يروي المقرّبون منه، أراد الرجل أن يحوك اتفاق صلح شبيه بـ«اتفاق الطائف»، على أن يكون جاهزاً وملازِماً للانتصار على «داعش». بمعنى آخر، أراد الحكيم البحث عن «مجد سياسي»، محاوِلاً التأسيس لمرحلة جديدة من «عراق ما بعد صدام». استقبل الرجل كثيرين، وزار آخرين، وسافر مرات عدة. كان الجواب المعلن ترحيباً ودعماً، لكن الحقيقة كانت مغايرة. في حديثهم إلى «الأخبار»، يؤكّد عدد مِمَّن تواصلوا مع الحكيم في هذا الصدد أن مشروعه «ولد ميتاً»، فيما يذهب آخرون إلى القول إن «مشروع الرجل ينمّ عن عدم نضج سياسي، ومراهقة سياسية، وهرطقة غير مفهومة». وهو تقدير تفيد المعلومات بأن مناخات النجف لم تكن بعيدة منه.
تلقّى كوادر «الحكمة» دورات تدريبية في الرياض وأبو ظبي


بعد فشل مشروع «التسوية»، طغت الضبابية على موقف الحكيم. تمسّك بالحدّ الأدنى من حجم العلاقة مع طهران، مُعزِّزاً في الوقت نفسه قنوات اتصاله مع الخليجيين والأميركيين. ومع حلول الاستحقاق الانتخابي، قرّر خوض الغمار منفرداً، لينال 19 نائباً. نتيجة، غير سهلة، اعتبرها الحكيم مُبرّراً لرفع سقفه التفاوضي، وإعادة التموضع على قاعدة اللعب بين طهران وواشنطن. اختار، ابتداءً، التحالف مع مقتدى الصدر وحيدر العبادي وإياد علاوي وكتل أخرى، في ائتلاف عدّه الخليجيون «ضربة لطهران». وبالتوازي مع ذلك، حاول الحكيم، وفقاً لمعلومات «الأخبار»، إقناع الصدر بالبقاء في النجف، على أن يتولّى هو مسؤولية التواصل مع الأفرقاء. اقتنع الصدر بادئ الأمر بـ«نصيحة» الحكيم، الذي أراد أن يكون عرّاب اتفاق يعزّز من حضوره. لكن في النجف نفسها، ثمة مَن همس في أذن الصدر مُحذّراً من «مكر» الحكيم، وداعياً إياه إلى زيارة العاصمة بغداد، وهذا ما كان.
فَشِل الحكيم، إذاً، في طبخ تسوية على مقاسه، لكنه ظلّ يراهن على إمكانية إيجاد خطة بديلة. خلال الشهرين الماضيين والشهر الحالي، كثرت زيارات قائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، والمبعوث الأميركي إلى العراق بريت ماكغورك، إلى بغداد. حاول الحكيم، في خضم ذلك الحراك، الدفع في اتجاه تكريس وجود حكومة ومعارضة، على رغم تمسك قوى كثيرة بـ«التوافق». لكن فجأة، حلّ الصدر ضيفاً في بيروت، حيث التقى الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، الذي نصحه بضرورة التحالف مع كتلة «الحشد الشعبي» (هادي العامري)، وأن يكون القرار النهائي عراقياً من دون أي تدخل أجنبي. وأعقب ذلك لقاء في بغداد بين الصدر وسليماني ناقش فيه الطرفان ضرورة «التوافق» لمنع أي اختراق خارجي.
هنا، استشعر الحكيم أن الصدر في طور إعادة صياغة رؤيته للمشهد، فأعاد تفعيل الضغوط في اتجاه تكريس مبدأ الحكومة والمعارضة من جهة، وإقصاء «حزب الدعوة» من رئاسة الحكومة من جهة أخرى. ضغوط أراد من خلالها الحكيم منع نتيجة «لا انكسار لأحد» التي تبنّت طهران الاشتغال عليها، خصوصاً وأن اقتناعه قائم على ضرورة كسر المالكي والعامري عبر تمكين تحالف الصدر ــ العبادي ــ علاوي من تسمية رئيس الوزراء. خلال اجتماع فندق بابل لقيادات تحالف «الإصلاح» الأحد الماضي، حرص الحكيم على يتولى أحمد الصدر (نجل شقيق مقتدى) قراءة البيان الختامي، محاولاً بذلك الإيحاء بأن زعيم «التيار الصدري» لا يزال متمسكاً بتحالف «الإصلاح»، والتشويش على المساعي الجارية للتوصل إلى تفاهمات بين الصدر والعامري.
محاولات الحكيم تظهير نفسه الأقرب إلى الصدر، والدفع في اتجاه مواجهة بين الأخير وخصومه، توازيها محاولات للإيحاء للأطراف الأخرى بأن زعيم «تيار الحكمة» على «مسافة واحدة من الجميع»، وأن رؤيته «وطنية خالصة أساسها التوافق والشراكة». هذا ما تجلى في اللقاء الأخير الذي جمع الحكيم والمالكي مطلع الأسبوع الجاري. لكنّ مقرّبين من الصدر والمالكي وحلفائهما يشكّكون في نيّات الزعيم الشاب. مصدر مطّلع على حراك الحكيم لا يتردد في القول إن الرجل «يمثّل رأس حربة المشروع الخليجي» إذا قورب هذا الأخير من زاوية «البيت الشيعي»، مستدركاً بأنه «حتى الآن استطاع إخفاء أي دليل من شأنه إدانته». ومع ذلك، فإن قراءة ما يجري وتسييقه يثبتان أن الحكيم يرقص على الحبال في لعبة «ستكشفها الأيام» بحسب ما يقول المصدر نفسه.

تمويل خليجي لـ«الحكمة»؟
مع انشقاق الحكيم عن «المجلس الأعلى»، طُرحت تساؤلات حول مصادر تمويل «تيار الحكمة»، خصوصاً أن طهران رفضت تمويل التنظيم الوليد. مصادر من داخل التيار ومِمَّن تعاملوا معه مالياً توضح، لـ«الأخبار»، أن تمويل التنظيم إنما يتمّ عبر أطر ثلاثة أحدها خارجي. في الإطار الأول، تقول المصادر إن انشقاق الحكيم كان له ثمن «غير مباشر»، مُبيِّنةً أنه في ظلّ حاجة كوادر التنظيم إلى تأهيل وتدريب، وجد الحكيم في الرياض وأبو ظبي مكاناً ملائماً لذلك. ووفقاً للمعلومات، فإن دورات عدة شهدتها العاصمتان لهذا الغرض، بعدما «خفّضت طهران حجم استقبال منتسبي الحكمة حتى إشعار آخر». يضاف إلى ما تقدم أن التنظيم تسلّم من الدولتين الخليجيتين 10 ملايين دولار على شكل هبات ومنح تدريبية لجهازه الإعلامي، وهو ما أعقبته «حملة تطهير في أجهزة الحكمة الإعلامية، بحيث تحوّلت خالصة الانتماء للحكيم». والجدير ذكره، هنا، أن إعلان الحكيم انشقاقه عن «المجلس» تزامن مع ارتفاع وتيرة الخطاب الخليجي المتودّد إلى ما يسمّى «القوى العروبية»، في تطور يرى البعض أن الحكيم أجاد تلقّفه والتماهي معه، محاذِراً في الوقت نفسه إشعال أي اشتباك مع طهران حفاظاً على خطّ رجعة محتمل معها.
أما الإطار الثاني، فهو منهج متّبع لدى ساسة البلاد عموماً، قوامه تقارب قادة الصف الأول من رجال الأعمال والمتموّلين. من شأن ذلك تسهيل مناقصات لهؤلاء مقابل «تبرّعهم» بحصة من الأرباح للتنظيم. عادة ما تتولّى الهيئات الاقتصادية في التنظيمات السياسية تلك المهمة، بإشراف مباشر ومتابعة من «الزعيم». وفي حالة الحكيم تحديداً، يشهد له الكثيرون بقدرته على جذب المستثمرين، ومدّ صناديق تياره بأموال تربو على ملايين الدولارات سنوياً. في ما يتصل بالإطار الثالث فهو مكمّل للثاني؛ إذ إنه قائم على الصفقات الموصوفة بـ«المشبوهة»، وتحديداً في محافظة البصرة التي يملك فيها تيار الحكيم نفوذاً واسعاً. بحسب مسؤولين في المحافظة تحدثوا إلى «الأخبار»، فإن «الحكمة» يتلقى نسبة من أرباح مرفأ البصرة، ومطارها، والمنافذ الحدودية البرية مع طهران، فضلاً عن فرضه «أتاوات» بملايين الدولارات على عدد من رجال الأعمال العراقيين والعرب مقابل السماح لهم بالعمل في مناطق نفوذ التنظيم. ولا تقف حدود الربح عن طريق تلك الصفقات عند المحافظات الجنوبية، بل تصل أيضاً إلى العاصمة، حيث يشارك «الحكمة» أرباح موقف مطار بغداد الدولي، وبعض الملاحق الخاصة به.



الباحث عن تجربة ناجحة
في أيلول/ سبتمبر 2016، تولّى عمار الحكيم رئاسة «التحالف الوطني» (تجمّع الكتل النيابية «الشيعية») خلفاً لوزير الخارجية إبراهيم الجعفري. بدا الزعيم الشاب، وفق ما يروي عدد مِمّن عملوا معه في تلك الفترة، سعيداً بـ«اللقب الجديد». بات يترأس اجتماعات «التحالف»، عادّاً نفسه مشرفاً على عمل كتله، ومُصوِّباً قراراته السياسية. يذهب البعض إلى القول إن «الحكيم تمسّك بهذا التجمع الفاشل، بقدر ما كان المالكي متمسّكاً بالولاية الثالثة»، حتى إنه حاول الاحتفاظ بمنصبه على رأس «التحالف»، «على رغم أن ولايته كانت ستنتهي في أيلول/ سبتمبر 2017، على أن تذهب الرئاسة في الدورة التالية إلى حزب الدعوة». ومع انفراط عقد «الائتلاف الشيعي»، ظلّ الحكيم يروّج فكرة زعامته لـ«التحالف الوطني»، فيما كان المحسوبون عليه يلحّون على أن زعيمهم «استطاع النهوض بالتحالف، واضعاً خططاً لتطويره وجعله مؤسسة سياسية ذات قرار وازن». اليوم، يحاول الحكيم إسقاط تجربته في «التحالف الوطني» على الهيئة العامة لتحالف «الإصلاح». وفي هذا السياق، كان لافتاً بيان الاجتماع الذي عُقد أول من أمس في مكتب الحكيم، حيث شدد المجتمعون على «مأسسة التحالف، وضرورة تحويله إلى مؤسسة سياسية قادرة على صناعة القرار»!
(الأخبار)