الحرب المفترضة في شبه الجزيرة الكورية لن تكون نزهة سهلة تترتب عليها نتائج حاسمة وسريعة، رغم كل المناخات الحربيّة العنترية التي تقوم بها حاملات الطائرات الأميركية في البحر الأصفر وبحر اليابان، من خلال مناورات مشتركة دورية بين الجيش الأميركي والجيش الكوري الجنوبي. فإلى جانب دولة نووية حديدية صمدت أكثر من نصف قرن في وجه الحصار والعقوبات الغربية تقف الصين، ذلك التنين الذي يؤدي دور حامي حمى نظام عائلة كيم وداعمه الاقتصادي والدبلوماسي في المحافل الدولية.حيال الوضع في المنطقة يمكن ملاحظة حقيقتين: الأولى، الموقع الجيوستراتيجي لكوريا الشمالية الواقعة على حدود الصين الشمالية الشرقية، دفع بكين منذ بدايات الحرب الباردة إلى تدعيم نظام الكوري، منذ عهد الأب الروحي لجمهورية كوريا الديموقراطية الشعبية، كيم إيل سونغ. والثانية، رغم تطلع بكين في السنوات الأخيرة إلى تعزيز مصالحها الاقتصادية، ولو على حساب التزاماتها الأيديولوجية، فهي لا تزال ترى في بقاء الاستقرار في شبه الجزيرة الكورية ضماناً لمصالحها وخط دفاع أمامي لها، في وجه عدوتها التاريخية اليابان، ومن خلفها الولايات المتحدة.
وبات دور الصين بمثابة البوصلة التي تحدد وجهة سير الحلول في المنطقة، على غرار العديد من الملفات في العالم. موقف تجلّى من خلال زيارة وزير الدفاع الأميركي، روبرت غيتس، لبكين قبل شهر، التي سبقت زيارة الرئيس الصيني هو جين تاو، لواشنطن، حيث التقى نظيره الأميركي باراك أوباما، وكان الملف الكوري في مقدمة الملفات التي بُحثت.
الجانب الأميركي ذكّر بخطر كوريا الشمالية «التي أصبحت تمثل تهديداً مباشراً للولايات المتحدة، ويمكنها تطوير صواريخ عابرة للقارات خلال خمس سنوات». ولم ينس أن ينوه بالجهود الصينية لتقليص التوتر في شبه الجزيرة الكورية، في تلميح واضح إلى ضرورة أن تؤدي بكين دورها في لجم جارتها «المشاكسة».
بيد أن التنين الشيوعي بقي على موقفه المتذبذب بين الانخراط في صنع قرارات دولية تنال الإجماع في مجلس الأمن، وعدم وصول الأمور إلى الانهيار، على طريقة المثل القائل «لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم». ووُصفت الصين مراراً بأنها أهم حليف لكوريا الشمالية، فهي من جهة أكبر شريك تجاري، وأهم مصدّر للغذاء والأسلحة والوقود للدولة الشيوعية التقليدية التي تحكمها عائلة كيم منذ انقسام الكوريتين في عام 1948. ودعمت الصين كوريا الشمالية منذ الحرب الكورية في عام 1950. وكما كانت بكين داعماً بلا حدود لنظام مؤسس الجمهورية الديموقراطية الشعبية، كيم إيل سونغ، واصلت الدولة الماوية دعم نظام الابن كيم يونغ إيل، فعارضت بما لها من قدرة على نقض قرارات مجلس الأمن (حق الفيتو) بالعقوبات الدولية الاقتصادية القاسية، على أمل تجنيب النظام الحليف الانهيار. وظل شبح تدفق اللاجئين الكوريين الشماليين إلى الصين (طول الحدود بين البلدين يصل إلى 800 ميل من خلال نهري التومن والأمنوك) في حال نشوب حرب بين الكوريتين، يتحكّم بموقف الصين في معالجة أي أزمة تنشأ في شبه الجزيرة الكورية عبر الدعوة إلى الحوار. وانطلاقاً من هذه الذهنية، أسهمت الصين بنحو كبير في إقناع كوريا الشمالية بالجلوس على طاولة التفاوض السداسية (تضم روسيا والصين والكوريتين واليابان والولايات المتحدة)، بهدف إخلاء المنطقة من السلاح النووي.
لكن التنين الصيني، بعد تجربة الكوريين لسلاح نووي في تشرين الأول 2006، اعتمد مقاربة جديدة مع كوريا الشمالية تقوم على الضغط والتحفيز في آن واحد. بيد أن التجربة النووية الثانية التي قامت بها بيونغ يانغ في أيار 2009، عقّدت العلاقة بين البلدين. مقاربة تجلّت في تصويت مندوب الصين لدى مجلس الأمن على قرار صدر في عام 2006 (رقم 1718)، وقضى بفرض عقوبات اقتصادية على كوريا الشمالية على خلفية تجربتها النووية. كذلك تجلّت أكثر في موافقة الصين أيضاً على قرار آخر بالعقوبات على كوريا صدر عن مجلس الأمن في أيار 2009 إثر تجربتها النووية الثانية.
وبحسب تعبير المسؤول السابق في وزارة الخارجية الأميركية، آلان رومبرغ، لمجلة «التايم»، فإن «بيونغ يانغ بصقت في عين الشعب الصيني» حين قامت بتجربتين نوويتين «ناجحتين» أقلقتا الحليف قبل العدو. لذلك، يرى المحللون أن «بكين تواصل تعزيز نفوذها على بيونغ يانغ أكثر من أي دولة أخرى» بحكم الروابط الأيديولوجية والعلاقات الاقتصادية، وللحد من الطموحات النووية للحليف الأصغر والتي قد تهدّد المنطقة بأسرها فيما لو خرجت المسألة من قبضة التنين.
لكن في المقابل، حسب رأي الخبير في شؤون شرق آسيا لدى مجموعة الأزمات الدولية، دانييل بنكستون، فإنه «رغم تحالف بيونغ يانغ الطويل مع بكين لا تستطيع الأخيرة السيطرة على الأولى»، مشيراً إلى أن الأميركيين يميلون إلى المبالغة في تقدير تأثير الصين على كوريا الشمالية. وفي نظر الباحث لدى «مجلس العلاقات الخارجية» الأميركي للأبحاث المُعمّقة، آدم سيغال، فإن «فكرة إدارة الصين ظهرها لكوريا الشمالية فكرة خاطئة»، مشيراً إلى أن بكين وافقت فقط على قرار الأمم المتحدة رقم 1718 بخصوص فرض عقوبات اقتصادية على كوريا، لكنها ضاعفت من نشاطها التبادلي التجاري معها ليصل إلى قيمة 2.79 مليار دولار أميركي في عام 2008، وارتفع بمعدل 41 في المئة عن عام 2007. كذلك بلغ حجم السلع الكمالية المحظورة التي صدّرتها الصين إلى كوريا الشمالية نحو 11 مليون دولار في الشهر عام 2009.
في الموضوع الاقتصادي، تنمو الشركات التجارية الصينية في الشطر الشمالي من كوريا ولديها امتيازات هناك. وتطور شركات صينية مصادر المعادن في المنطقة الشمالية، وذلك في سياق استراتيجية الصين، الحفاظ على الاستقرار في المناطق الحدودية التي تتشارك بها مع كوريا الشمالية. أما المصالح القومية للصين فتقتضي تطوير مناطقها الفقيرة في الشمال الشرقي من طريق توفير خطوط نقل المعادن ومصادر الطاقة عبر الحدود.
وعن أولويات الصين، تحدثت دراسة مجلس العلاقات الخارجية، عن أن بكين تدعم كوريا الشمالية كمنطقة عازلة على حدودها الشمالية الشرقية مع كوريا الجنوبية، حيث ينتشر أكثر من 29 ألف جندي أميركي. «هذا الأمر يسمح للصين بأن تخفف من انتشار قواتها على الحدود الشمالية الشرقية وتركز على معالجة قضية استقلال تايوان».
وبحسب ما كتب الباحث في معهد الدراسات الدولية في جامعة فودان في شنغهاي، شين دينغلي، في نشرة «أمن الصين»، فإن ولاء كوريا الشمالية مهم لبكين كحصن في وجه هيمنة الولايات المتحدة على المنطقة، وفي الوقت نفسه في وجه أي تعاظم لقوة اليابان العسكرية.
الصين ستكون المتضرر في حال نشوب نزاع في المنطقة من جرّاء هروب مئات الآلاف من الكوريين الشماليين اليها؛ ولهذا السبب بدأت الصين ببناء شريط شائك على طول الحدود منذ عام 2006. ويرى سيغال أيضاً أنه «إذا حرّضت كوريا الشمالية على حرب مع الولايات المتحدة، ستتحمل كوريا الجنوبية والصين وطأة أي جبهة عسكرية في شبه الجزيرة الكورية»، لذلك فإن البلدين مترددان في دفع بيونغ يانغ إلى وضع صعب خوفاً من انهيار نظام كيم.
الخبراء يقولون إن الصين غامضة في مسألة التزامها في الدفاع عن كوريا الشمالية في حال النزاع العسكري. لكنه في أي حال، لن تقف بكين مكتوفة الأيدي أمام أي محاولة لإشعال فتيل النزاع في شبه الجزيرة الكورية، ما دامت الحرب ستهدد استقرار مناطق تمثّل مجالها الحيوي، وبالتالي فإن موقفها من المناورات العسكرية الأميركية والكورية الجنوبية التي تُجرى بالقرب من سواحلها الجنوبية، ما هو سوى تحذير استباقي من شأنه التلويح بعصا القوة لكسر أي يد تسعى إلى ليّ ذراعها في الشمال الكوري.

■ ■ ■

كوريا الجنوبية: رحلة إلى بلد الحروب والمصانع

كانت الرحلة شاقة من بيروت إلى سيول، حيث دامت 10 ساعات لم تتوقف خلالها الطائرة في أي مطار. لكن الوصول إلى هذا البلد ورؤية معالمه التاريخية ومعرفة أبرز محطاته السياسية تنسيك عناء السفر. سلسلة من المشاهدات تضع اليد على جُرح الانقسام وآمال الوحدة
كان المشهد رائعاً لدى وصول الطائرة إلى أحد المطارات الحربية في عاصمة كوريا الجنوبية، سيول، حيث كانت الفرقة الموسيقية وعدد من الضباط والجنود في الاستقبال على المدرج. إنه يوم سعيد بالنسبة إلى الشعب الكوري الذي يستقبل دفعة من جنوده العاملين في لبنان ضمن قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام (اليونيفيل)، بعدما خدموا في القرى الحدودية في الجنوب ستة أشهر.
لم تكن الرحلة طبيعية. كانت الطائرة تحتضن نحو 200 جندي كوري و16 لبنانياً أتوا بدعوة من الحكومة الكورية للتعرف إلى ثقافة هذا البلد الواقع خلف البحار. عشر ساعات متواصلة لتنتهي الرحلة في أحد المطارات العسكرية في سيول. كل ما في الرحلة منذ لحظة الانطلاق حتى وقت الترجّل، كان يشير إلى صرامة عسكرية في تنفيذ الأوامر. صرامة بدأت بإجراءت الدخول إلى المطار في بيروت، حيث كان ينبغي علينا الانتظار لمدة ست ساعات قبل الإقلاع «لأسباب تتعلق بخصوصية سفر جنود حفظ السلام»، حسبما أوضح المقدّم كيم نام هيون، الذي رافق الوفد اللبناني طوال فترة مكوثهم في بلاده. وفد قطع المسافة الطويلة مع الجنود محلّقاً فوق قبرص وتركيا وجورجيا وكازاخستان ومنغوليا والصين، قبل أن يحطّ في شبه الجزيرة المثيرة للجدل. أما سبب هذه الرحلة، فهو برنامج تنظّمه الكتيبة الكورية في الجنوب اللبناني بالتعاون مع سفير بلادها لدى لبنان، وبتمويل من الحكومة الكورية، تُدعى من خلاله فعاليات جنوبية وصحافيون ورجال أمن لبنانيون، بهدف تعريفهم إلى حضارة بلاد «الهيونداي» و«الكيا» و«السامسونغ».
بعد رحلة لم تخل من الرفاهية رغم ساعاتها الطويلة، كانت إجراءات الاستقبال في المطار مزيجاً من الترحيب بالجنود العائدين وضيوفهم وإجراءات تفتيش تضمّنت مراقبة بعض الصور الأخيرة التي اختطفتها آلات تصوير حملها بعض أعضاء الوفد اللبناني.
«ممنوع التصوير»، صرخ أحد الضباط الموجودين. تقدّم حارس مدجّج بالسلاح ليقول بتهذيب بالغ تميّزت به الشعوب الآسيوية «تصوير الفرقة الموسيقية ليس مشكلة، لكن ممنوع تصوير أيٍّ من منشآت المطار، لذلك ينبغي على كل من التقط صورة أن يعطيني آلة تصويره للتأكد من حذفها». إجراءت روتينية لم تخل من إطلاق الطرائف واعتذارات بعض ضباط الجيش لضيوفهم.
لعل أكثر ما يهمّ زائر هذا البلد هو قضية الكوريتين والحدود التي قسّمت شبه الجزيرة الواقعة بين دولتين كبيرتين (روسيا والصين)، ودولة عملاقة بالمعنى الاقتصادي (اليابان) التي تقف من خلفها الولايات المتحدة، حتى باتت موضوع تجاذبات وحروب باردة وساخنة. قضية يمكن اكتشاف بعض تفاصيلها لدى زيارة المنطقة الأمنية المشتركة على الحدود الفاصلة بين الكوريتين. هناك حيث يمكن الزائر أن يدخل خلف الخط الفاصل في الجزء الشمالي، وفق ترتيبات تجري مسبقاً بين كوريا الديموقراطية الاشتراكية (الشمالية) والجمهورية الكورية (الجنوبية)، تكتشف كم هو مؤلم واقع العائلات التي فُكّكت بفعل الانقسام.
بصمات الأميركيين واضحة في كل تفاصيل الحياة الكورية، لدرجة أن بعض المحافظين من الكوريين الجنوبيين باتوا يشعرون بخطورة تهديد حضارة العم سام لحضارتهم. وحسبما تقول بعض الإحصاءات الشائعة هنا، فإن 20 في المئة من الجنوبيين لا يحبّون أميركا، رغم مساعدتها لهم في حربهم ضد أشقائهم الشيوعيين، إلّا أنها تضع في المقدّمة مصالحها وأهدافها في فرض نمط حياة مختلف تماماً عن حياة هذه الدولة الآسيوية.
على أي حال، لن تكون مشاهدات هذه الزيارة الاستثنائية، التي أرادها السفير الكوري لدى لبنان فرصة للتقارب بين الشعبين اللبناني والكوري لمناسبة الذكرى الثلاثين لتأسيس العلاقات بين الجانبين، مقتصرة على جانب النزاع. ففي هذا البلد الذي تبلغ مساحته 100140 كيلومتراً مربّعاً، نهضة اقتصادية وصناعية كبرى، وضعته في مصاف الدول العشرين الاقتصادية الكبرى (جي ـــــ 20)، التي استضافت قمتها سيول في تشرين الثاني الماضي.
في كوريا الجنوبية، التي يتعدّى عدد سكانها خمسين مليوناً، ثمة تاريخ عريق حافل بالأحداث والمحطات التاريخية الفاصلة. أحداث يمكن الزائر أن يقف عندها خلال زيارته معالم هذا البلد وقصوره التاريخية ومتاحفه.
معالم عديدة تحكي قصة تاريخ حافل بالحروب والغزوات، والتحولات السياسية التي لم تحدّ من نشاط الشعب الكوري وتصميمه على العمل بجهد كبير، حتى أصبح نمراً آسيوياً اقتصادياً، يتربّع على عرش منسوج بخيوط تاريخ من الحروب ونهضة من المصانع. لعل أهم هذه المعالم، التي كانت في سياق برنامج زيارات الوفد اللبناني إلى كوريا، هي المتحف الوطني الكوري، ومتحف ذاكرة الحرب الكورية، وقصر غييونغبوك الملكي، والقرية الكورية الفولكلورية، والبيت الكوري الذي يعرّف الزائر إلى المطبخ المحلي والثقافة والفنون. معالم لم تكن في المتناول لولا جهود من رافق الوفد الضيف، بقيادة المقدّم كيم نام هيوم العائد من لبنان مع زميله الملازم كيم سيون جنك، اللذين لم يذهبا إلى عائلتيهما قبل انتهاء برنامج الزيارة، مع التنويه هنا بدور المترجمة التي تتقن العربية الفصحى جيداً، جانغ مين كيونغ، وهي تفضّل مناداتها بنجمة، لكون اسمها يعني بالعربية نجمة، إضافة إلى عناصر أخرى واكبت الضيوف خطوة خطوة.
كوريا الجنوبية أصبحت تتمتع بكفاءة عالية تجعلها شبيهه ببعض الدول الأوروبية، من حيث التنظيم والبنى التحتية ووسائل النقل والتنظيم المدني. أما عن الصناعات الرائدة، فلا مجال للحديث في عجالة. فباختصار، تحاول كوريا، بجهود كبيرة، الجمع بين عراقة الماضي واللحاق بتطورات الحاضر.