هو الإغلاق الثامن عشر لمؤسسات الحكومة الفيدرالية الأميركية منذ 37 عاماً، أي منذ عام 1976، وقد كان أطولها حتى الآن إغلاق استمر 21 يوماً بين 16/12/95 و6/1/96، كان لإغلاق آخر استمر خمسة أيام بين 14 و19 تشرين الثاني 95، وكانت الأسباب كالعادة تتعلق بالصراع بين الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، من الحزب الديموقراطي، ورئيس مجلس النواب آنذاك نوت غينغريتش، من الحزب الجمهوري، حول المشكلة التقليدية نفسها: هل يتم رفع سقف الدين العام المسموح للحكومة الفيدرالية مع أو من دون تخفيض الإنفاق العام على بعض البرامج الاجتماعية؟ وفي عام 95، كان الجمهوريون يريدون رفع أقساط التأمين الصحي مقابل رفع سقف الدين العام، وكان الديموقراطيون يريدون تخفيضها.
كان إغلاق المؤسسات الحكومية الأميركية يستمر عادةً أربعة أيام أو أقل، ويكون جزئياً، أي لوزارات بعينها مثل وزارة العمل أو الصحة كما في الإغلاق الأول للحكومة في عام 76 في عهد الرئيس الجمهوري جيرالد فورد، ومجلس النواب الديموقراطي، وقد استمر ذلك الإغلاق عشرة أيام.
كذلك تم إغلاق الحكومة الأميركية خمس مرات في عهد الرئيس الأسبق جيمي كارتر، بين عامي 76 و80 لمدد وصلت إلى ثمانية عشر يوماً أو أقل، مع أن الرئيس كان ديموقراطياً.
أما مجلسا النواب والشيوخ فكان يسيطر عليهما الحزب الديموقراطي أيضاً. وكان الخلاف مجدداً حول بنود الموازنة الفيدرالية والتمويل الفيدرالي للإجهاض، فيما كانت الولايات المتحدة تتجه نحو اليمين اجتماعياً وسياسياً، ما انعكس في تكوين مجلس النواب. لكن معظم حالات الإغلاق للحكومة الأميركية، ما عدا في عهد كارتر، نشأت عن اختلاف الانتماء الحزبي للرئيس عن الانتماء الحزبي لمجلس النواب، وصولاً الى الصراع الدائر حول الموازنة الفيدرالية اليوم بين الرئيس الديموقراطي باراك أوباما، ومجلس النواب الذي يهيمن عليه الجمهوريون (بالرغم من أن مجلس الشيوخ يسيطر عليه الديموقراطيون بأغلبية طفيفة).
تتم آلية إيقاف عمل الحكومة الفيدرالية تلقائياً بالشكل الآتي: تنتهي السنة المالية للحكومة في 30 أيلول وتبدأ في 1 تشرين الأول. وبما أن الموازنة الحكومية يجب أن تصدر بإقرار مجلسي النواب والشيوخ قبل تاريخ 30 أيلول، فإن عدم التوصل الى اتفاق حول موازنة حكومية للسنة التالية يؤدي الى إدخال الدولة في سياق ما يسمى «قرار الاستمرار»continuing resolution وهو ما يعني الاستمرار بتمويل الوزارات والبرامج الحكومية عند مستوى التمويل لكل منها في السنة السابقة. لكن «قرار الاستمرار» نفسه بحاجة إلى إقرار من مجلسي النواب والشيوخ. فإذا لم يتم إقراره بسبب خلاف بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري، تدخل الحكومة الفيدرالية تلقائياً في حالة إغلاق لكل المنشآت والمرافق غير الأساسية، وهو ما حدث هذه المرة حيث تم إرسال 800 ألف موظف حكومي الى بيوتهم في إجازة بلا راتب، مع إبقاء مليون وثلاثمئة ألف موظف في وظائفهم من دون دفع رواتبهم، بينهم معظم (وليس كل) موظفي السلك العسكري والصحة مثلاً.
وتم استدعاء مئات الآلاف من هؤلاء للعودة إلى العمل، من دون راتب طبعاً، منهم عدد كبير من المتعاقدين المدنيين مع وزارة الدفاع ووكالة الاستخبارات المركزية الأميركية التي تشير التقارير الى أنها أرسلت أكثر من 12،500 موظف غير أساسي إلى منازلهم، ثم عادت لاستدعاء بعضهم.
ولنلاحظ أن إقرار الموازنة بحد ذاته لا يسيّر عمل المؤسسات الحكومية تلقائياً، بل يجب أن يُصدر مجلس النواب إقراراً بتمويل كل برنامج حكومي على حدة ليحقّ للقائمين على ذلك البرنامج إنفاق ما أقرّته الموازنة لهم. ويستطيع الرئيس أن يمارس حق النقض ضد الموازنة ككل أو ضد بعض برامج الإنفاق الحكومي. فإذا صوّت أكثر من ثلثي أعضاء مجلس النواب ضد النقض، فإنه يسقط تلقائياً.
موضوع الخلاف الحالي بين الجمهوريين والديموقراطيين حول موازنة السنة المالية 2014 التي تبتدئ في 1 تشرين الأول يتعلق بمسألتين مترابطتين، إحداهما مبدئية، والأخرى إجرائية: 1) رفع سقف الدين العام فوق 16،7 تريليون دولار، بمعنى السماح للحكومة الفيدرالية بالاقتراض لتسيير أعمالها بشكل يجعل مجموع قروضها المتراكمة أكثر من 16،7 تريليون دولار، وهو ما يُقدّر أن تصل إليه الحكومة الفيدرالية في أواسط شهر تشرين الأول الجاري، و2) قانون التأمين الصحي الذي يعتبره الرئيس أوباما أحد أهم إنجازات رئاسته، وهو قانون يلزم كل مواطن بشراء بوليصة تأمين صحي من إحدى شركات التأمين تحت وطأة دفع غرامة، مع تقديم دعم حكومي لشركات التأمين لقبول المواطنين الذين يقل دخلهم عن مستويات معينة.
في المقابل، لا يريد الجمهوريون أن تتضمن الموازنة تمويلاً حكومياً لتأمين المواطنين صحياً، ويعتبرون ذلك نوعاً من «الاشتراكية» و«التجاوز على السوق الحرة» في خطبهم ومقالاتهم. فلنلاحظ في المقابل أن أوباما المتهم بالاشتراكية هنا لا يقترح من قريب أو بعيد شيئاً يشبه «الطبابة المجانية» كما في الدول الاشتراكية أو حتى بعض الدول الرأسمالية، إنما يُجبر المواطنين على شراء تأمين صحي من شركات التأمين، مع تقديم دعم جزئي لشركات التأمين لقبول المواطنين تحت مستوى دخل معين، أي أن برنامج أوباما يتضمن محاولة لحل مشكلة ما يقارب 50 مليون مواطنٍ أميركيٍ غير مغطّين صحياً عبر آلية السوق: شركات التأمين والقطاع الطبي الخاص.
هو أقرب إلى صراع ما بين يمين ويمين متطرف، ففي الواقع يعتبر ذلك القانون مدخلاً شريراً وموطئ قدم خبيث لتقديم الرعاية الصحية المجانية للمواطنين عبر الدولة، علماً بأن المؤمّنين في الأعم الأغلب لا ينالون رعاية صحية كاملة، بل متناسبة طرداً مع قيمة التأمين الذي يشترونه.
الطريف أن هذا القانون الذي كان السبب المباشر في إغلاق الحكومة كان قد أقرّ بصورته النهائية في 30/3/2010، ولكنه ما برح يواجه تحديات قانونية وسياسية من لدن الجمهوريين منذ ذلك الوقت، وهو ما يوصلنا الى النقطة الأساسية؛ وهي اتخاذ ذلك القانون عنواناً للهجوم على العجز الحكومي المتصاعد في الكونغرس الأميركي، حيث يساوي الدين العام صافي عجز الموازنة عبر السنوات المالية المتعاقبة.
أما سبب تصاعد الدين العام، والعجز في الميزان التجاري للولايات المتحدة، فذلك موضوع آخر يحتاج الى معالجة أخرى تتعلق ببنية الاقتصاد الأميركي، إنما يكفينا القول إن الحروب الخارجية ووجود أساطيل وتسهيلات عسكرية وأكثر من ألف قاعدة عسكرية أميركية حول العالم تحتاج الى تمويل دائم ومُرهِق؛ وهو أحد أسباب تصاعد حدة الموقف ضد التدخل العسكري الخارجي ولو من دون إرسال قوات على الأرض.
لكن موضوع إغلاق الحكومة كان تاريخياً لعبة عض أصابع بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي، والعين دوماً على الانتخابات الرئاسية المقبلة في 8/11/2016 وقبلها على الانتخابات النيابية لكامل مقاعد مجلس النواب وثلث أعضاء مجلس الشيوخ في 4/11/2014.
وتشير التقارير الإعلامية واستطلاعات الرأي الأميركية المتوفرة حتى الآن الى أن الأميركيين يحمِّلون الجمهوريين مسؤولية إغلاق الحكومة، أي أن مناورتهم لتعطيل عملها وتحميل الديموقراطيين والرئيس أوباما وزر ذلك لا يبدو أنها تسير كما يشتهون.
الأثر الاقتصادي والمالي لإغلاق الحكومة الفيدرالية الأميركية:
وقد قيل الكثير عن الأثر الاقتصادي لتعطيل الحكومة، ومنه الأثر على السياحة لأن وزارة الخارجية لا تصدر التأشيرات لدخول الولايات المتحدة. كذلك يعني تعطيل البرامج الحكومية أن الإنفاق الحكومي سيقلّ، ما سيكون له أثر سلبي على الدورة الاقتصادية ويؤثر على معدل النمو الاقتصادي بمقدار ما يستمر الإغلاق. ومن البديهي أن شركات القطاع الخاص الأميركية المتعاقدة مع الدولة، في قطاع الدفاع أو الصحة مثلاً، ستتأثر عائداتها بمقدار ما يستمر الإغلاق. وهذا بدوره يؤثر على أرباحها، وهو ما يؤثر على أسعار أسهمها في السوق المالية، ويؤثر تالياً على أرباح وأسعار أسهم الشركات التي ترتبط بها خلفياً عبر المواد الخام أو قطع الغيار أو التصاميم أو الاستشارات أو أمامياً عبر التسويق. ولهذا انخفضت قيمة السوق المالية 1،5 في المئة بعد الأيام العشرة الأولى للإغلاق.
دولياً، قد يؤدي عجز الحكومة الأميركية عن تغطية خدمة ديونها من أقساط وفوائد الى ارتفاع معدلات الفائدة الأميركية وانخفاض التصنيف الائتماني للحكومة الأميركية.
ويتجلى ذلك أكثر ما يتجلى في قلق الصين التي تملك 1،28 تريليون دولار من أذونات الخزينة الأميركية وقلق اليابان التي تملك 1،14 تريليون دولار منها، وهو ما يعني أن الصين واليابان وحدهما تملكان نحو 2،4 تريليون من الدين الحكومي الأميركي البالغ 16،7 تريليون دولار. إذ إن تقصير الحكومة الفيدرالية الأميركية عن سداد فوائد تلك الأذونات قد يؤدي الى انهيار قيمتها، وبالتالي مسح احتياطي الصين واليابان منها. وقد كانت روسيا والصين خلال الأشهر الماضية في طور تحويل جزء من احتياطياتهما من أذونات الخزينة الأميركية والدولار لديها إلى ذهب. كذلك تملك الصين أكثر 3،5 تريليونات دولار من احتياطيات العملة الأجنبية، منها الأذونات المذكورة آنفاً، ومنها احتياطيات دولارية سائلة لا يعرف أحد خارج البنك المركزي الصيني نسبتها بدقة من مجموع احتياطياتها.
والصين أكبر مالك لاحتياطيات العملة الصعبة في العالم.
في المقابل، يعني إغلاق الحكومة الأميركية وعجزها عن الوفاء بالتزاماتها المالية، أن الدولار ليس مضموناً ما دامت الدولة التي تقف خلفه مفلسة، ما قد يؤدي إلى انهيار سعر الدولار، وهو ما بدأ يحدث ببطء للدولار إزاء ست عملات رئيسية منذ الإغلاق الجزئي للحكومة الفيدرالية.
بالطبع، يملك مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) أكبر مخزون لأذونات الخزينة الأميركية بقيمة تزيد على 2 تريليون دولار، أي أن البنك المركزي يموّل جزءاً من الدين العام، وقد ارتفع ذلك الجزء من نصف تريليون من أذونات الخزينة في بداية عام 2009 إلى أكثر من تريليونين اليوم لتمويل الأزمة المالية الدولية التي نشبت في عام 2008، أي يفترض بالحكومة أن تدفع الفوائد على ذلك القرض المتضخم للبنك المركزي.
لكن بشكل عام، يملك غير الأميركيين أقل من نصف الدين العام الأميركي، أو 47 في المئة فقط، من ضمنها ما تملكه الصين واليابان، ويملك الباقي مواطنون ومؤسسات خاصة مثل المصارف وصناديق الاستثمار ومؤسسات عامة أميركية. والجزء المتعلق بالحفاظ على أصول المصارف وصناديق الاستثمار الأميركية هو ما يدفع أكثر من غيره إلى الاعتقاد بأن الحزبين الجمهوري والديموقراطي سيتوصلان الى تسوية ما بشأن الموازنة، وأن كل ما يجري لا يعدو كونه نزاعاً غير عقلاني بين الحزبين خرج عن السيطرة كما يذهب المحللون.
استنتاج مبني على تجارب إغلاق الحكومة في المرات الـ17السابقة، فهل ستخاطر الحكومة بسعر الدولار وبهزة مالية عالمية بشكل محسوب للتخلص من عبء دينها الداخلي والخارجي، ولمسح الصين (أول أكبر احتياطي في العالم) وروسيا (خامس أكبر احتياطي في العالم) والبرازيل (سابع أكبر احتياطي في العالم) والهند (عاشر أكبر احتياطي في العالم)، آخذة بجريرتها اليابان والسعودية وسويسرا (ثاني وثالث ورابع أكبر احتياطي في العالم بالتوالي)؟ لكن حتى الآن، لا يرى معظم المحللين أن الحكومة ستسير في اتجاه استمرار الإغلاق الطويل، وستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً. على كل حال، الحكومة الأميركية تموّل 20 % فقط من إنفاقها من القروض، فإذا لم يتمكن الكونغرس في النهاية من رفع سقف الدين العام، فإن ما قد ينجم عن ذلك يكون تقليصاً قسرياً لحجم الحكومة وللبرامج الاجتماعية والحفاظ على موازنة متوازنة، وهو ما يمثل «أجمل إحساس» بالنسبة الى الجمهوريين.



اختلاف الانتماء الحزبي بين الجمهوريين والديموقراطيين

يتعلق اختلاف الانتماء الحزبي باختصار بالمعادلة البسيطة الآتية:
ــ كان الجمهوريون يدفعون عامةً باتجاه تقليل الإنفاق الفيدرالي على البرامج الاجتماعية، وزيادته على البرامج العسكرية، وتقليل الضرائب على الأغنياء، والسعي إلى تحقيق موازنة متوازنة كل عام، أي تساوي الإيرادات والنفقات الحكومية.
ــ وكان الديموقراطيون يدفعون عامةً بالاتجاه المعاكس، أي باتجاه زيادة الضرائب على الأغنياء، وعدم الاكتراث لتوازن الموازنة العامة في كل عام، ومحاولة زيادة الإنفاق الاجتماعي، من دون المساس بالإنفاق العسكري.
وثمة استثناءات مهمة في الحالتين الجمهورية والديموقراطية. فالرئيس الأسبق جيمي كارتر، من الحزب الديموقراطي مثلاً، مارس حق النقض ضد مشروع إنفاق عسكري على مشروع حاملة طائرات تعمل بالوقود النووي، ما أسهم في إيقاف الحكومة ثمانية عشر يوماً في عام 1978.
في المقابل، ثمة استثناء معاصر مهم في الحزب الجمهوري، من أقصى يمين الحزب الجمهوري في الواقع، هو جناح حزب الشاي كما يسمونه، وهو يميني متعصب، لكنه مع تقليص الإنفاق العسكري أيضاً وضد الحروب الخارجية لأنه يريد دوراً أقل للحكومة في الاقتصاد. ولهذا العنصر وزن مهم في مجلس النواب الحالي يتمثل بـ 49 من بين 435 نائباً زائداً خمسة أعضاء في مجلس الشيوخ، ولهذا السبب الداخلي الأميركي المحض المتعلق بمنع تزايد الإنفاق العسكري، وبالتالي تزايد عجز الموازنة ودور الحكومة في الاقتصاد. فلننتبه جيداً هنا؛ كان لحزب الشاي دور مهم أخيراً في مجلس النواب في ترجيح كفة رفض الضربة العسكرية الأميركية ضد سوريا، وكان نداً موضوعياً شرساً للوبي الصهيوني القوي في المجلس.