كانت طائرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لا تزال تحلّق في الأجواء متجهة إلى مدينة سوتشي، المنتجع الواقع على البحر الأسود، حينما أصدر أمره العسكري المفاجئ بإجراء مناورات عسكرية، تشمل مجموعة مختارة من الأسلحة والقوات. بعد ذلك بقليل، وبينما طائرة الرئيس لا تزال في الأجواء، أي في تمام الرابعة صباحاً تحديداً، تسلم وزير الدفاع سيرغي شويغو، طرداً مختوماً، يتضمن الأمر العسكري للقائد الأعلى للقوات المسلحة الروسية (بوتين).
وفور هبوط الطائرة الرئاسية في سوتشي توجه رجل روسيا القوي نحو مقر قيادة اسطوله البحري في البحر الأسود، ليعطي من على متن السفينة رقم واحد الأمر بانطلاق المناورات.
يقول الأمين الصحافي المرافق للرئيس الروسي، ديميتري بيسكوف، إن الطابع المفاجئ للمناورات يستهدف اختبار الجاهزية القتالية والعملياتية للجيش. ولكنه، في الوقت نفسه، غض الطرف عن أن المناورات لم تفاجئ الجيش الروسي «المستهدف» بها فقط، ولكنها أكثر من ذلك فاجأت العالم الذي لم يفق بعد من وقع مناورات البحرية الروسية في البحرين الأبيض والأسود، منذ نحو شهرين.
وأوضح بيسكوف أن الغرض الرئيسي من هذه العملية هو التحقق من استعداد وتنسيق أعمال مختلف الإدارات المعنية في المناورات، التي تشارك فيها 36 سفينة، وطائرات سلاح الجو، وقوات الانتشار السريع، وقوات محمولة جواً، إلى جانب وحدات من القوات الخاصة العسكرية، والقوات الخاصة التابعة للقيادة العامة لاستخبارات الجيش، مشيراً إلى أن العدد الكلي للأفراد المشاركين في هذه المناورات يبلغ سبعة آلاف عنصر، «وبهذا فإن هذه العملية حسب المتعارف عليه دولياً لا تخضع لشروط الإخطار المسبق للدول المجاورة».
وذكّر بيسكوف بأن عمليات المناورات، ليست شيئاً «مفاجئاً» تماماً، فقد سبق للرئيس ان أعلن في خطابه أمام مجلس وزارة الدفاع، منذ فترة، أنه سيتم إجراء هذا النوع من الأنشطة والعمليات المفاجئة وغير المعلن عنها، بشكل متواصل.
غير أن اللافت في حديث بيسكوف، هو قوله: «عندما يكون كل شيء على وشك الانهيار، يمكن توقع إجراءات مفاجئة وطارئة كهذه من قبل القيادة السياسية والعسكرية»، حسبما نقلت عنه وكالة «ريا نوفوستي». وبطبيعة الحال، يستدرك بيسكوف بعد ذلك مباشرة منبهاً إلى أن: «الحديث يدور حول عملية اختبار مفاجئة للجاهزية القتالية والعملياتية للجيش».
لكن استدراكه التوضيحي لا يحمل إشارة إلى ذلك الـ «كل شيء» الذي «على وشك الانهيار»، في حين من المؤكد أنه لا يمكن أن يعني جيش بلاده بذلك، على الأقل لأن هذا الجيش هو اليوم في أفضل حالاته منذ أكثر من ربع قرن. بينما «الأمر العسكري» الذي يتحوط لـ «الانهيار الوشيك» يأتي متناسباً مع جملة من التطورات الإقليمية والدولية، التي لا تأخذ الموقف الروسي بما يستحق من جدية، وتتجه إلى معاكسته.
وهنا، يمكن للخبراء العسكريين الجزم بأن كون روسيا غير ملزمة بإبلاغ دول حوض البحر الأسود بالمناورات، لا يعني أن الضرورات البديهية المتعلقة بالسلامة لا تحتم مثل هذا الإجراء حتى في ظل حالة «مفاجئة»، ما يدفع إلى القول إن مفاجأة العالم هي، كذلك، ضمن سياقات متَّخِذ القرار السياسي العسكري، ولا سيما أن أربع من الدول المطلة على هذا البحر هي أعضاء في حلف الأطلسي (رومانيا، تركيا، اليونان، بلغاريا)، بينما جورجيا تحظى برعاية خاصة من قبل دول الحلف الأوروبي الأميركي، وتشكل إزعاجاً للسياسي الروسي على نحو خاص.
مساء الخميس جاء بتفاصيل إضافية، فقد تبيّن وفق ما أفاد رئيس الدائرة الصحافية التابعة لوزارة الدفاع، اللواء ايغور كوناشنكوف، بأن المناورات لم تقتصر على المنطقة العسكرية الجنوبية. بل شملت كذلك فوج القوات الخاصة المحمولة جواً المتمركزة في ضواحي موسكو، وكتيبة القوة المحمولة جواً المتمركزة في تولا (300 كيلومتر إلى الجنوب من موسكو).
وإلحاقاً بهذه المعلومات، وتفسيراً لطبيعة القوات المشاركة التي تتناسب على نحو واضح مع التداعيات المحتملة، التي حملتها التطورات الأخيرة على صعيد الأزمة السورية، تم التذكير بأنها تتناسب أكثر مع مهمات حفظ الأمن في سفوح القوقاز، وهو المنطقة المتاخمة لسوتشي التي تشهد في العام المقبل دورة الألعاب الاولمبية الشتوية، ويعتبر بوتين نجاحها بمثابة تحدٍ شخصي بالنسبة له.
جرى كذلك التذكير بأن هذه المناورات المفاجئة، وغير المخطط لها، هي الثانية من نوعها خلال شهرين؛ ففي شباط الماضي، وللمرة الأولى منذ 20 عاماً، تم تنظيم «عملية تفتيش مفاجئة» لجهوزية القوات، شملت القوات التابعة للقيادتين الوسطى والجنوبية، والفارق أن الذي أعطى الأمر لتلك العملية هو وزير الدفاع، بينما جاءت هذه بأمر مباشر من الرئيس نفسه إثر عودته من فعالية دولية. كما تمت الإشارة، في السياق، إلى أنها تتزامن مع المناورات الأميركية الجورجية، التي انطلقت في الثامن عشر من آذار الماضي في قاعدة فازياني.
وهنا، يلاحظ عضو أكاديمية العلوم العسكرية المختص بالأسلحة التقليدية، كبير باحثي معهد الدرسات والبحوث السياسية الروسية، فاديم كازيولين، أن المناورات الروسية أضحت في السنوات الأخيرة تتم أكثر فأكثر، وبحجم أكبر وأكبر. ويقول لصحيفة «فيزغلاد» أن «لهذا، بالدرجة الأولى، علاقة بالتمويل الجيد وتدفق الأموال على وزارة الدفاع والمجمع الصناعي العسكري والتغييرات في القيادة العسكرية. فقد كانت من أول القرارات التي اتخذها وزير الدفاع الجديد (شويغو) إجراء عمليات تفتيش مفاجئة، وتمارين، وذلك لتحديد نقاط الضعف في الجيش، لتحليل كيفية استعداده لمواجهة أية مشاكل غير متوقعة».
ملاحظة أخرى، ذات دلالة، قد تكون استدعت هذه المناورات: ففي الوقت الذي يجري فيه الجيش الروسي مناوراته المتتابعة، فإن القوات المسلحة الأميركية تمر بوضع معاكس. فقد اضطرت القيادة الأميركية لإلغاء مناورات (أليسون) واسعة النطاق التي كان من المقرر إجراؤها في نيسان المقبل في فيربانكس (الاسكا) وفي المحيط الهادئ، لأسباب تتعلق بعجز بموازنة الدفاع.
لكن يبقى السؤال حول الـ«كل شيء» الذي هو «على وشك الإنهيار». من الضرورة أن نلتفت إلى أن صمتاً روسياً نسبياً خيم على الأجواء منذ نحو أسبوعين، حيث اقتصرت المداخلات الروسية على موضوع لجنة التحقيق الدولية بشأن «كيميائي خان العسل» في سوريا. من المؤكد أن وراء الصمت الروسي ثلاثة أسباب: الأول، يتعلق باستقبال الحليف الصيني الذي ينيط بموسكو إدارة الصراع السياسي مع الولايات المتحدة والغرب في منطقة الشرق الأوسط، ثم قمة «بريكس» التي تزامنت مع القمة العربية في الدوحة، وثالثاً، أن الأحداث أخذت منعطفاً حاداً منذ بداية آذار يستدعي من موسكو التفكير ملياً باستعداداتها والحد الأقصى، الذي تستطيع بلوغه في الدفاع عن موقفها ومصالحها ومساندة حلفائها.
هذه المناورات تحمل استياءً من التسويف الأميركي في أكثر من موضوع، ومن ذلك العمل باتجاهين في التعامل مع الأزمة السورية، الذي يأخذ شكل التأكيد على تفاهم جنيف من جهة، والصمت عن حلفاء طيعين يمضون بالاتجاه المعاكس بزعم أنهم مستقلون خارج نطاق الإرادة الأميركية.
وفي الواقع فإن أهمية المناورات العسكرية، لا تأتي فقط من كونها الإجراء الأول الذي قام به بوتين فور عودته من قمة بريكس، التي كانت قد استقبلت «نداءً» من الرئيس السوري بشار الأسد، للمساعدة في حل الأزمة السورية، ولكن من واقع انها اختتمت صمتاً روسياً توافق مع أيام حافلة بالخطوات الهجومية من الطرف الآخر. كذلك تأتي المناورات في عام يسعى الروس فيه إلى حسم مواضيعهم الاستراتيجية الخلافية مع الأميركيين، سلباً أو إيجاباً؛ لتحديد الأولويات المقبلة.
وأقل ما يمكن التماسه هنا، هو أن المنطقة والعالم يعيشان بالفعل هاجساً يؤكد أن «كل شيء على وشك الانهيار»، وأن موسكو معنية بالقول بأنها تشعر بذلك أيضاً وهي، برغم هذا، تبقى على موقفها، وأن طرفاً آخر سواها عليه أن يحتمل كلفة الحيلولة دون هذا «الانهيار».---



«الأطلسي» يتمنى تبديد مخاوف روسيا

قال نائب الأمين العام لحلف شمالي الأطلسي الكسندر فيرشبو، إن الحلف يتمنى أن يؤدي تغيير تجريه الولايات المتحدة في أنظمة الدفاع الصاروخي على مستوى العالم الى تبديد مخاوف روسيا وتعزيز التعاون في قضية تسبب توتراً في العلاقات منذ فترة طويلة. وقال فيرشبو، في مقابلة مع وكالة «رويترز»، إن «التغيير في الخطط الأميركية... يجعل الموقف أقل غموضاً بكثير.. لا يوجد سبب للقلق الآن من أن يكون للنظام الذي سينشر في أوروبا أي أثر من أي نوع على الرادع الاستراتيجي الروسي». وأضاف «نعتقد أن هناك فرصة حقيقية ونتمنى ان يستغلها الروس».
وكان فيرشبو قد أجرى محادثات مع مسؤولين كبار من وزارتي الخارجية والدفاع الروسيتين الى جانب الكرملين.
(رويترز)