إسطنبول | مع كل الأحداث التي تعصف بالمنطقة، يبدو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خارج التاريخ، وكأنما الزمن توقّف عنده قبل أكثر من ثلاث سنوات. لا يفوّت الرجل أية فرصة للهجوم على الرئيس السوري بشار الأسد أو المصري عبد الفتاح السيسي، متهماً إياهما بظلم السوريين والمصريين، من دون أن يذكّره أحد بما يقوم به هو شخصياً ضد معارضيه داخل تركيا. ولا يكتفي أردوغان بمثل هذا الموقف الكلامي، بل لا يتردد في اتخاذ المواقف العملية ضد الرئيسين المذكورين ونظاميهما السياسيين بشكل مباشر أو غير مباشر.
فبعد ما قام به ضد سوريا خلال أكثر من ثلاث سنوات، حيث قدم كل أنواع الدعم السياسي والمالي والعسكري واللوجستي لجميع الجماعات المسلحة التي تقاتل في سوريا، استضافت مدينة غازي عنتاب التركية، الأسبوع الماضي، اجتماعاً مهماً لقادة وممثلي ١٠٠ من الجماعات المسلحة التي تقاتل في سوريا، وقرّرت في ما بينها توحيد قواها للقتال معاً ضد النظام وتنظيم «الدولة الاسلامية» (داعش) معاً وربما استعداداً للمرحلة المقبلة التي تخطط لها واشنطن في ما يتعلق بتدريب وتسليح ما يسمى «المعارضة المعتدلة».
ولم يهمل أردوغان أيضاً مساعيه للسيطرة على قيادة «الائتلاف السوري المعارض» وتصفية أتباع السعودية داخله وداخل الحكومة المؤقتة التابعة لها، كما جرى الأسبوع الماضي أيضاً. وجاءت المفاجأة الأخرى عندما تحدّث الإعلام الكردي، السبت الماضي، عن تسلل عناصر من «داعش» من الأراضي التركية باتجاه عين العرب، وقاموا بعمليات انتحارية للسيطرة على البوابة الحدودية التي شهدت اشتباكات عنيفة انتهت بسيطرة المقاتلين الأكراد على البوابة.

في هذا الوقت، كان الإعلام المصري يتحدّث عن مسؤولية تركيا عن التظاهرات الإخوانية الأخيرة، خصوصاً بعدما بدأت المحطة التلفزيونية التابعة لإخوان مصر بثّها من إسطنبول اعتباراً من بداية الشهر الحالي. وقد سبق لعدد كبير من قيادات «الإخوان» أن جاؤوا إلى تركيا بعد عزل الرئيس المصري محمد مرسي والإقامة فيها، وانضم إليهم في ما بعد عدد من قيادات «الإخوان» الذين تمّ إبعادهم من قطر. وقد ينضمّ إليهم عددٌ آخر بعد المصالحة القطرية مع السعودية ودول الخليج الأخرى التي تضغط على الأمير تميم لوضع حد لموقفه الداعم للإخوان مادياً وإعلامياً عبر فضائية «الجزيرة». وقد يضع هذا الموقف القطري المحتمل أردوغان ورئيس الحكومة أحمد داوود أوغلو أمام وضع صعب ومعقد، خصوصاً بعد المعلومات الإعلامية التي تحدّثت الأسبوع الماضي أيضاَ عن دعم تركي مباشر للجماعات الاسلامية المسلّحة في ليبيا، على الرغم من خسارة أردوغان لحليفه الاستراتيجي راشد الغنوشي في تونس جارة ليبيا.

أما الحرب التي أعلنها السيسي على «حماس» عبر تأييد ودعم من دول الخليج والرئيس محمود عباس، فقد أفقدت أردوغان ورقة مهمة في استراتيجيته العقائدية والسياسية، باعتبار أن خالد مشعل حليف إخواني مهمّ بالنسبة إلى أردوغان الذي خطّط للتمسك بهذه الورقة لتساعده على البقاء في الشارع الإسلامي والعربي، كما فعلت وتفعل إيران المنافس التاريخي لتركيا.
وجاءت اتهامات تل أبيب الأخيرة لتركيا، المتعلقة بتدريب وتسليح عناصر «حماس» وإرسالهم إلى إسرائيل للقيام بـ«أعمال إرهابية» لتضع أردوغان أمام وضع صعب في علاقته مع واشنطن واللوبي اليهودي هناك، خصوصاً مع سيطرة الجمهوريين على الكونغرس الأميركي، في وقتٍ يعرف فيه الجميع أن الجمهوريين سيكونون أكثر قساوة ضد تركيا في قضية الأرمن، خصوصاً أن عام ٢٠١٥ هو الذكرى المئوية للإبادة الأرمنية في العهد العثماني. كذلك، لن يتردد الجمهوريون في تضييق الحصار والضغط على أنقرة في موضوع «داعش» و«جبهة النصرة» والجماعات الاسلامية المتطرفة عموماً. وسيسعى أردوغان لموازنة هذا الضغط بالعمل أكثر لإقناع واشنطن بضرورة التخلّص من الرئيس الأسد وأنصاره في العراق وإيران، خصوصاً إذا فشلت المفاوضات بين مجموعة دول (1+5) وطهران حول الملف النووي الايراني، بينما تسعى الرياض أيضاً إلى إفشاله حتى يبقى رأيها الوحيد المسموع إقليمياً ودولياً.
استضافت غازي عنتاب اجتماعاً لقادة وممثلي بعض الجماعات المسلحة المقاتلة في سوريا

عداء تركيا لجيرانها، وتنافسها الصريح مع السعودية على الريادة الإقليمية في الآونة الأخيرة، انعكس حالةً عصبية على خطابات أردوغان داخلياً وخارجياً، حيث أبدى استياءه من الأمم المتحدة ومن مجلس الأمن وأميركا، بحجة أنها لم تتضامن معه بشكل مطلق وعملي في حربه ضد الأسد. كذلك، يقف الرجل ضد إيران وروسيا والصين وضد كل من تضامن مع الأسد حتى على الصعيد الداخلي.

فقد اتّهم زعيم حزب الشعب الجمهوري، كمال كليتشدار أوغلو، بالتضامن مع الأسد لأنه «علوي» مثله، واتهم كل معارضيه من المدنيين والعسكر بالخيانة الوطنية والتآمر على حكومته التي نجحت في إلهاء الرأي العام الداخلي بالقضايا الخارجية. وحتى لو أوصلت هذه القضايا تركيا إلى طريق مسدود، فقد بقي المواطن التركي بعيداً عن فهم وإدراك هذه الخطورة ما دامت تركيا هي المستفيد الأول والأخير اقتصادياً وتجارياً ومالياً من كل أزمات المنطقة، تماماً مثل وضعها خلال الحرب العراقية ـ الإيرانية، ثم حرب الكويت والاحتلال الأميركي للعراق والوضع الحالي في سوريا والعراق، وغيرها من مصائب الجوار التي انعكست فوائد على الاقتصاد التركي. هذه الاستفادة كانت كافية بالنسبة إلى المواطن التركي ليتجاهل، ليس فقط فضائح الفساد الخطيرة التي طاولت أردوغان وأولاده ووزراءه، بل لغضّ النظر عما يحدث في المنطقة من أحداث خطيرة، تورّطت فيها تركيا.

بالنسبة إلى هؤلاء، يبدو أن الأهم يبقى في ألا تمس هذه الأحداث تركيا بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، وهو ما نجح فيه الثنائي أردوغان ـ داوود أوغلو وبدعم من «قوى خفية»، أمرت عشرات الآلاف من الشركات الأجنبية بالعمل في تركيا، وشجعت مئات المليارات من الدولارات على الاستثمار في تركيا التي يزورها سنوياً نحو ٣٠ مليون سائح. هؤلاء ساهموا في دعم الاقتصاد التركي الذي رسّخ شعبية أردوغان في الداخل، في ظلّ استمرار الرضى الأميركي عن هذه الشعبية لأسباب عديدة، منها ما هو معروف سياسياً واستراتيجياً ومنها ما لا يعرفه إلا أردوغان والرئيس السابق عبدالله غول وداوود أوغلو وأصحاب القرار في واشنطن!