نواكشوط | من بين شخصياتٍ جهادية موريتانية عدة، مثّل محفوظ ولد الوالد، أكثر من غيره، اسماً بارزاً في ساحة الجهاد العالميّ بسبب أنه كان ثالث شخصيةٍ في «القاعدة»، مطلوبة دولياً. بروز اسمه ساهم في أن يكون شخصيةً رائدة في ميدان «الحركات الجهادية»، ومؤثراً أيضاً بقوة في تلك الحركات التي ظهرت نشيطة قبل سنوات قليلة في الساحل الصحراوي، منطلقةً من خلفية جهادية ومستلهمة تجربة «القاعدة» نهاية القرن الماضي وبداية القرن العشرين.
وهو باعتباره أول شخصيةٍ جهادية موريتانية تصل إلى هذا المستوى، فإن ذلك قد جعله يؤثّر تأثيراً قوياً، كباقي قادة «القاعدة»، على «الجهاديين الجدد» في منطقة الصحراء تحديداً. ويتضح من بعض التعليقات المتفرقة هنا وهناك أن «الجهاديين في الساحل» كانوا يحتفظون بصورةٍ تبجيليةٍ عنه باعتباره قيادياً بارزاً في «القاعدة» وصاحَبَ نشأة الحركة الجهادية المعاصرة وعاصَرَ أكثر رجالاتها قوةً. ولكن اليوم بعدما اعتزل عالمه السابق مطلع القرن الحالي وعدّل من مساره، فإن ذلك يسبّب إثارة الكثير من الجدل حوله. وما من جدلٍ أكثر صدىً وقوّة من ذلك الجدل الذي دار في الأوساط الجهادية في العالم عقب «تحوّله».
في بداية التسعينيات انتسب محفوظ ولد الوالد إلى تنظيم «القاعدة» الذي كان حينها في طوره التأسيسي الأول، مُكمِّلاً آخر فصول «الجهاد ضد السوفيات» في أفغانستان. وقد تزامن ذلك الانتساب مع تقديمه بحث تخرّج في «المعهد العالي للبحوث والدراسات الإسلامية» بنواكشوط، تحت عنوان «الصحوة الإسلامية في موريتانيا»، احتوى أحكاماً قيمية توضح رؤية كاتبه الأصولية جيداً: انتقاده للدولة الوطنية بسبب علمانيتها المفسدة، وقوله بأن استنادها إلى الشريعة الإسلامية في القانون هو مجرد ادّعاء وخديعة، وعلاوةً على ذلك، محاولته نقض وتشنيع الديموقراطية كنموذج للحكم بنسف «أيّ جدوائية ممكنة لها في المجتمعات الإسلامية»، وغير ذلك.
من شأن ذلك إيضاح أنّه بانتساب الرجل إلى «القاعدة»، فقد كان متمتعاً بخلفيةٍ دينية وفقهية من شأنها أن تجعل إدراكه لأمور الحكم والجهاد من الناحية الشرعية، وخصوصاً على النحو المطلوب في «القاعدة»، إدراكاً راسخاً. وهذا ما هيّأه أكثر من غيره لأن يكون المفتي الشرعي للتنظيم في مرحلة ما بعد أفغانستان الأولية (بين منتصف الثمانينيات ومنتصف التسعينيات)، وهي مرحلة كان التنظيم يأخذ فيها زخماً إعلامياً كبيراً في العالم أجمع تقريباً.
وبقدر ما جعله ذلك عرضةً للمتابعة الأمنية، من قبل المخابرات الغربية، بقدر ما جعله أيضاً يبدو منافساً للشخصيات الرئيسة الأخرى، كأسامة بن لادن، الذي اصطدم مرّات عدة معه في ما يتعلق بالأسس الدينية للتنظيم. ويعتبر ولد الوالد أن الخلاف بينه وبين أسامة بن لادن بدأ في مرحلة السودان (1992 ــ 1996) وحتّى ما بعد، وكان سببه، وفق ما صرّح به في مقابلاتٍ إعلامية عدة، أن رؤيته الخاصة للواقع ومآلاته كانت تدفعه نحو تقديم اقتراحاتٍ عملية وإرشادية لتجنيب التنظيم كوارث عدة هو في غنى عنها من الأصل. ولكن بن لادن، باعتباره المشرف الفعلي على أمور التنظيم، كان كثيراً ما لا يبالي بالتوجيهات الدينية لولد الوالد كمفتٍ شرعيّ. وهذا ما جعل الأخير يشعر ببعض الانزعاج من الأمر، ويبدي موقفاً أكثر تمايزاً سيفضي في النهاية، بنحو علني وواضح، إلى الاستقالة (عام 2001 على الأرجح) من التنظيم ودوره التأطيري فيه.

الخلاف بينه وبين
أسامة بن لادن بدأ في
«مرحلة السودان»

لكن ما هي على وجه الضبط أسباب استقالة ولد الوالد من «القاعدة»؟ لا شك في أنّ الأسباب التي دفعته إلى الاستقالة لم تكن فكريةً بالمقام الأول. فهو مع اعتقاده الراسخ بمبدأ الجهاد وضرورته في السياق العالمي الجديد، كشتى أعضاء التنظيم وقادته من حيث تلك النقطة، إلاّ أنه يمتلك، وفق قوله، تصوراً خاصاً به للأولويات والخطوات التي ينبغي اتّباعها عملياً أكثر من غيرها. ومن هنا مثلاً كان يرى «عدم ضرورة التصدي للأنظمة السلطوية الحاكمة»، نظراً إلى أنه «لا يمكن إسقاطها». ويضيف في مقابلةٍ له مع «الجزيرة»: «في بداية التسعينيات لما أراد الأخوة في الجماعة الإسلامية الليبية القيام بالجهاد ضد نظام القذافي وطرحت هذه الفكرة في الساحة الجهادية، أنا كنت من أشد المعارضين لهذا، لأن سنن الله جارية على الجميع، وهي لا تحابي أحداً، ومن سنن الله أن عدداً قليلاً من الناس بهذه الإمكانات البسيطة لا يمكن أن يُسقط نوعاً كهذه الأنظمة». وفي نظره، أنه ما دامت هناك عراقيل لوجستية وتنظيمية، فإنه لا يمكن القيام بذلك «التصدي الجهادي».
ومن هنا أيضاً، اعترض ولد الوالد ــ كما يقول ــ على إعلان «القاعدة» لـ«الجهاد على أميركا»، الذي دفع أسامة بن لادن، بالتنظيم، إليه دفعاً. وهو كان يرى في ذلك الإعلان، «بما فيه من مغامرة شجاعة»، مجرد انتحارٍ ذاتي غير مدروس العواقب ولا حتّى السبل. وقد تنبّه حينها إلى أن قرار «الجهاد ضدّ أميركا»، الذي جاء في المرحلة الأفغانية الثانية (1996 ــ 2001)، سيُعرِّض أفغانستان للغزو، وبالتالي «سقوط إمارة أفغانستان الإسلامية في يد الأميركان».
عندما خرجت «القاعدة» من السودان (1996) بضغطٍ من السعودية، بقي في السودان يُكمِّل دراساته العليا، وهذا جعله يبتعد قليلاً عن المشهد الحركي لـ«القاعدة» في أفغانستان وعما خُطّط له من تفاصيل عملية وعسكرية وتنفيذية، ومنها ما يتعلّق بـ11 أيلول/سبتمبر مثلاً. وباستثناء أنه كان يعلم بأن هناك «حدثاً جهادياً كبيراً سيحدث في أميركا»، فإنه لم يكن يعرف شيئاً عن تفاصيل تلك العملية الدقيقة. كذلك فإنه أيضاً كان، وفق ما يذكر، معارضاً لها كلياً «من زاويةٍ دينية متأنية» ترى أن الجهاد ليس مقتصراً فقط على قتل الناس والتخريب في الأرض. زد على ذلك أن ولد الوالد اعتبر أن النتائج الكارثية للعملية ستكون أكثر من المردود الإيجابي لها على الإسلام والمسلمين في شتى بقاع العالم، وخصوصاً أوروبا.
ويقول الرجل إنه قدّم استقالته من دوره في «القاعدة» قبل أسابيعٍ قليلة من تنفيذ 11 أيلول/سبتمبر 2001، ولكنه تعهّد لبن لادن بشكلٍ خاصّ بأنه لن يعلن استقالته خشية «إضعاف الموقف الإسلامي» والتأثير سلباً عليه في مرحلةٍ حساسّة كتلك التي كانت تتصاعد فيها نذر الحرب. وهنا يأتي السؤال: بالرغم من خلافه مع «القاعدة» منهجياً، هل تخلّى عن المبادئ التي كان يؤمن بها؟ مما يبدو من كلامه فإنه لم يتخلّ عن مبادئه التي كان يؤمن بها، وهو يقول: «كل الأفكار التي أؤمن بها اليوم هي نفس الأفكار التي كنت أؤمن بها بالأمس»، مع نفيه أي تغيّراتٍ أو مراجعات حدثت على مستوى فكره وقناعاته. لكن كتاباً أصدره «منبر التوحيد والجهاد» عام 2013 لمؤلفه عبد الله بن عبد الرحمن الشنقيطي، تحت عنوان «هل تراجع ولد الوالد... أم اختُرِقت القاعدة؟»، يُقدِّم وجهة نظرٍ مختلفة عن ذلك، خاصّة أنه جاء ردّاً على المقابلات التي قام بها مع قناة «الجزيرة».
يتساءل الكاتب بنرةٍ تشكيكية عن كل ما قاله والد الوالد في مقابلته، ويقول: «أعتقد أنّ العشر سنوات التي قضاها في إيران (2001 ــ 2012) تغيّرت فيها كل خلايا بدنه، وتغيّرت فيها كل خلايا فكره... ومع ذلك فهو يحاول جاهداً إيهامنا بأنه لم يتغير شيء في فكره ولا في منهجه». ويعمد صاحب الكتاب إلى المقارنة بين مقابلتين لولد الوالد، الأولى قديمة والثانية حديثاً، ليوضّح ما يراه «تناقضاً صارخاً» في كلامه عبر القول: «في الجواب القديم يتحدث بلغة التحدي ويعتز ويفخر بقتاله لأميركا ويعتبر قتل الأميركيين قربة وعبادة ويقول بأنه نذر نفسه لذلك. أما في الجواب الثاني فقد اختفت نبرة التحدي وظهر بدلاً منها السرور بتبرئة أميركا له». وفي سبيل تفنيد كلام ولد الوالد الجديد، يورد مؤلف الكاتب قصيدةَ ولد الوالد، «دموع في مآقي الزمن»، التي يثني فيها على ضربة 11 أيلول/سبتمبر ومن قاموا بها من نشطاء في «القاعدة». ثم يضيف تعليقاً على كلامه: «مهمة الرجل الكبرى هي التخذيل وصد الناس عن الجهاد بشتى الطرق والوسائل». وفي الختام، يخلص إلى القول إنّه يعتمد «الكذب المضلل لخدمة الغرب والإعلام» وكسبيل لتشويه الجهاد والمجاهدين، ثم يضيف أيضاً: «مهما يكن فإن الرجل اليوم لا يحمل أي فكر جهادي ولا ينبغي أن يحسب على القاعدة ولا على التيار الجهادي، إن كان قد تراجع فليس هو أول المتراجعين، وإن كان قد اندسّ فليس هو أول المندسين».
ينشط ولد الوالد اليوم في موريتانيا كشخصيةٍ نخبوية، حيث إنه دائماً ما يقدّم مداخلاتٍ عمومية تتعلق بالوضع العام في البلاد، مثيراً في بعض الأحيان حملات ضدّه. وبرغم ابتعاده عن «القاعدة» واتصاف فكره بتشدد ديني، فإنّه يتحدث مثلاً عن ضرورة «التخلص من أمراض العصبية، والمذهبية، والفصائلية». وفي عودته إلى البلاد، فإن أنشطته أصبحت متعددة ومتنوعة لدرجة أنها لا تقتصر فقط على الجوانب الدينية، بل تشمل أيضاً الجوانب السياسية والثقافية. وهذا ممّا أسهم في تسليط الضوء على شخصيته وتاريخه أكثر فأكثر.