كان الأمر مجرّد حادث وقع بفعل الطبيعة، لكنه بدا بالغ الرمزية في الآن نفسه. الجليد الذي راكمته موجة الصقيع القارس التي خيّمت على أوروبا في كانون الأول من عام 2010، أثقل دعائم «متحف الستار الحديدي» في مدينة راسدورف الألمانية، مسبباً انهيار جزء من النقطة «ألفا»، ذلك الموقع العسكري الذي كان في السابق أحد مواقع المراقبة في الحرب الباردة.
في واقع الحال، لم تكن النقطة «الفا» مجرّد موقع عسكري متقدّم لـ«الأطلسيين»، فمن تلك النقطة المتقدمة، كان ما يقرب من 50 ضابطاً وجندياً أميركياً يراقبون، بيقظة عالية، تحركات القوات التابعة لـ«حلف وارسو» الذي كان يقوده الاتحاد السوفياتي، ويرصدون كل ما قد يشير إلى هجوم محتمل على «ثغرة فولدا»، التي كانت تعدّ أضعف النقاط الحدودية بين ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية في حال نشوب «حرب عالمية ثالثة».

يسعى «الأطلسيون»
اليوم إلى استنساخ مفردات
الحرب الباردة

بالنسبة إلى البعض، بدا انهيار بعض تحصينات النقطة «ألفا»، وما دُفن تحت ركامها من آليات وطوافات قديمة ــ وبعضها نادر ــ مؤشراً على تهالك بعض من تراكمات الحرب الباردة، ولا سيما أن العالم كان قد استقبل بارتياح في مطلع ذلك العام، توصل الولايات المتحدة وروسيا إلى معاهدة جديدة، وقعها باراك أوباما وديمتري ميدفيديف في براغ، لخفض الحدود القصوى للرؤوس الحربية الاستراتيجية بنسبة 30 في المئة، والحدود القصوى لآليات الإطلاق الاستراتيجية بنسبة 50 في المئة مقارنة بالمعاهدات السابقة.
وأما بالنسبة إلى آخرين، الأقل تفاؤلاً، فإنّ انهيار النقطة «ألفا»، كان إشارة بالغة الرمزية، إلى أن الصراع بين روسيا والغرب قد تجاوز الحدود القديمة لـ«الستار الحديدي»، وأن التنافس الحاد على «رقعة الشطرنج الكبرى»، قد بات أكثر قرباً من حدود روسيا، سواء في شرق أوروبا، الذي بدّلت بلدانه البندقية من كتف «وارسو» إلى كتف «بروكسل»، فصارت المكان المفضل للأميركيين لإقامة «درع صاروخية»، بذريعة توفير مظلة دفاعية ضد «التهديدات» الباليستية الإيرانية، أو في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة، التي اجتاحت بعضها «الثورات الملوّنة».
اليوم، يسعى «الأطلسيون» إلى استنساخ مفردات الحرب الباردة، واستنساخ «ثغرة فولدا» جديدة على بعد أميال قليلة من الحدود مع روسيا، فالحديث يتركز على «ثغرة سوالكي»، التي يُقصد بها ذلك الممر البري الواقع عند الحدود البولندية ــ الليتوانية، والذي كان محوراً أساسياً لتدريب عسكري ضخم، أجرته جيوش «الناتو» قبل أسبوعين، لمحاكاة هجوم روسي محتمل على دول البلطيق.
ومن الناحية العسكرية، ثمة ما يثير قلق «الأطلسيين» من «ثغرة سوالكي»، فذلك الممر الذي يراوح عرضه بين 60 و100 كيلومتر، والواقع على مقربة من جيب كاليننغراد ــ حيث الوجود العسكري الروسي ــ وبيلاروسيا، حليفة روسيا، والعدو الأول للغربيين، يشكل «كعب أخيل» بالنسبة إلى الخاصرة الشرقية لـ«الحلف الأطلسي»، ذلك أن استحواذ الروس عليه، سيقطع دول البلطيق الثلاث العضوة في «الناتو»، أي استونيا ولاتفيا وليتوانيا.
أمّا من الناحية السياسية، فالأمر يبدو مختلفاً، خصوصاً أن كافة التحركات الروسية التي شهدتها الفترة السابقة، لم تكن ذات طابع هجومي، بقدر ما جاءت بمثابة ردّ فعل دفاعي، على التحركات الاستفزازية للحلف الأطلسي على الحدود الغربية لروسيا، التي تتخذ يوماً بعد يوم مسارات تصاعدية ومتعددة الأشكال، بدءاً بمخططات توسيع «الحلف الأطلسي»، مروراً بالمناورات العسكرية المترافقة مع تصعيد في اللهجة الخطابية، وصولاً إلى التحرّشات، التي طاولت قبل أيام طائرة وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو.
وبالرغم من أن روسيا نفت مراراً وتكراراً أن تكون لديها أي طموحات في أراضي دول البلطيق، التي كان بعضها جزءاً من الاتحاد السوفياتي، إلا أن الغربيين لا يبدون مقتنعين بذلك، لا بل إن قلقهم أخذ يتزايد، بعد الخطوة الجريئة التي أقدمت عليها روسيا في خضم الأزمة الأوكرانية، حين ضمت جزيرة القرم، ما دفع العلاقات الروسية ــ الغربية إلى أدنى مستوى منذ الحرب الباردة.
ولا يبدو توتير الأجواء بين «الأطلسي» وروسيا من صنيعة الولايات المتحدة، القائد الفعلي للحلف الغربي، فحسب، إذ كانت بريطانيا، ولا تزال، من بين الأطراف التي لعبت دور المحرّض، إلى جانب الدول الثلاث المعنية في البلطيق.
وعلى سبيل المثال، فإن الجنرال ريتشارد شيرف، البريطاني الذي كان يتولى، عشية ضم القرم، منصب نائب القائد العام للقوات الحليفة في أوروبا، تحدث أخيراً عن سيناريو تخيّلي، هو إحكام روسيا سيطرتها على البلطيق، من خلال تكرار تجربة شرق أوكرانيا، في لاتفيا، بما يزيد احتمالات الحرب النووية، وبما يشكل التهديد الأكبر للحلف الأطلسي منذ تأسيسه قبل 70 عاماً. وبطبيعة الحال، إنّ تخيّلات كهذه، سرعان ما تجد من يطوّرها ليجعل منها «حقيقة»، كلما صدر عن إدارة دونالد ترامب ما يفيد بعزمه على تخفيف الانخراط الأميركي في «الناتو»، أو كلما حققت روسيا إنجازاً جيوسياسياً في مكان ما على رقعة الشطرنج الأوراسية.
لكن هذه المخاوف التحريضية، على كثافتها، لا تبدو مقنعة بالنسبة إلى كثيرين، في ظل اختلاف الظروف الجيوسياسية ــ واستطراداً التاريخية والديموغرافية ــ بين الأوضاع الخاصة بجزيرة القرم، وبين دول البلطيق، ولا يبدو كافياً لتبرير الأنشطة العسكرية لدول حلف شمال الأطلسي في أوروبا الشرقية، التي تدفع تلك المنطقة إلى سلوك «مسار التدهور»، على حد توصيف سيرغي شويغو، خلال جولته التفقدية الأخيرة لكاليننغراد.
السيناريوهات التشاؤمية، كان يمكن قراءتها بين سطور حديث شويغو في كاليننغراد، إذ رأى أن التحركات العسكرية للحلف الأطلسي هي «أكبر دليل على عدم وجود الرغبة للتخلي عن السياسة المضادة لروسيا من قبل شركائنا الغربيين».
علاوة على ذلك، فقد أشار الوزير الروسي إلى معطيين آخرين، يعكسان تنامي النزعة العدائية تجاه روسيا، إلى مستويات غير مسبوقة، وأولهما القمة الأخيرة لـ«الناتو»، في أيار الماضي، التي جعلت روسيا ثاني التحديات «الأطلسية» الراهنة، بعد «الإرهاب الدولي»... وثانيهما «الضغط السياسي والإعلامي والاقتصادي من قبل بعض الدول، التي تحاول أن تستفيد من القوة العسكرية كوسيطة الوصول إلى الأهداف السياسية الجغرافية».
وإذا ما رُبطَت تلك «الاستفزازات»، بالمسار العام الذي تسلكه السياسات الغربية تجاه روسيا، منذ مطلع الألفية الثانية، تصبح دوافع القلق الحقيقية أكثر تفهّماً حين تصدر عن موسكو.
وانطلاقاً من ذلك، يمكن فهم الردود الروسية التصعيدية تجاه التحرّكات «الأطلسية»، التي يشبهها البعض باستعدادات ألمانيا النازية لغزوة الاتحاد السوفياتي في الحرب العالمية الثانية، في ما عُرف حينها بعملية «بارباروسا».
لذلك، كان طبيعاً أن تتخذ روسيا إجراءات عسكرية في مواجهة الهجمة «الأطلسية»، ما يشي بأنّ منطقة البلقان، ستصبح مرّة أخرى، ميداناً لسباق تسلّح جديد، قد يتخذ وتيرة أسرع، خلال الفترة المقبلة، ولا سيما في ظل الاستعدادات الروسية لتنظيم مناورة عسكرية ضخمة في هذه المنطقة الحساسة، أطلقت عليها أسم «زاباد (غرب) ــ 2017»، بمشاركة قوات من بيلاروسيا.
في حديثه إلى المخرج الأميركي أوليفر ستون، ضمن وثائقي سيعرض قريباً بعنوان «مقابلات مع بوتين»، يصف الرئيس الروسي محاولات «الأطلسيين» لمحاصرة روسيا بأنها كانت «خطأً كبيراً وفادحاً». لم يكن ما قاله بوتين مجرّد موقف عابر، فالكل بات مقرّاً بأن حساب الحقل الأميركي في تسعينيات القرن المنصرم، لم يكن مطابقاً للبيدر الروسي في أواخر العشرين الأولى من القرن الحالي، لا بل إن الأميركيين أنفسهم، قد يدركون، بعد حين، أنهم فوّتوا فرصة تاريخية، عندما قابلوا بفتور مقترحاً تقدّم به فلاديمير بوتين لانضمام روسيا إلى الحلف الأطلسي، حسبما صرّح الرئيس الروسي في المقابلة نفسها مع المخرج الأميركي.
ولا يختلف اثنان على أن الردّ الروسي على السياسات الغربية قد حقق انتصارات تراكمية، خلال الأعوام الماضية، وهو ما يمكن رصده من الشرق الأوسط وأوكرانيا... ولعلّ ما ترسمه مراكز الأبحاث في الولايات المتحدة من سيناريوهات عسكرية، لا يبدو مبشراً بالنسبة إلى «الأطلسيين»، خصوصاً أن لا توقعات حاسمة بشأن ردّ فعل روسيا، التي باتت أكثر قدرة على التحرّك السريع على الساحة الدولية، بشكل غير متوقع، يشبه إلى حد كبير قفزات الضفدع.