‏لم تكن رحلة الساعة والدقائق العشرين بالطائرة إلى شيكاغو، برفقة ربّ عملي، مملّة ذلك اليوم من عام 2006. كان المدير قد طلب مني صباحاً، ومن دون سابق إنذار، مرافقته لتوقيع عقد مع أحد الزبائن الكبار بصفتي المدير التقني وصاحب التصميم الذي نالت الشركة على أساسه عقد التصنيع.
كان الزبون، دونالد ترامب، غنيّاً عن التعريف، ورب العمل يعرفه جيداً؛ أخبرني ونحن في الطائرة أنه ما زال يدين للشركة بمئات آلاف الدولارات، منذ أوائل التسعينيات، قيمة أعمالٍ رفض تسديدها كعادته مع أي متعهد ــ قيل لي ــ للتهرب من الدفع. سألت المدير حينها عما قد يدفعه إلى الدخول مع ترامب في عقدٍ آخر قد ينتهي كسابقه، فكان الجواب أنّ بلدية شيكاغو أصرّت، قبل أن توافق على ترخيص المشروع، على وضع شرط أساسي على المستثمر، وهو تحويل كل الأموال المرصودة للمشروع وتكاليفه، من قروض ومصادر تمويل خاصة، إلى حساب خاص باسم البلدية (escrow) تشرف هي عليه حصراً، ويتمّ صرف الأموال للمتعهّدين وباقي المصاريف من هذا الحساب الذي لا يتحكّم به ترامب ــ وذلك خوفاً من أن يلقى المشروع مصير بقية مشاريع الرجل العالقة في أروقة المحاكم، من الولايات المتحدة إلى أقاصي آسيا، بسبب الخلافات على الدفع.
وصلنا إلى شيكاغو ليلاً، وكان اللقاء مقرراً عند العاشرة من صباح اليوم التالي، على أن نستقل طائرة العودة حوالى الرابعة بعد الظهر. كل شيء كان جاهزاً ومتّفقاً عليه، ومن المفترض أن يكون اللقاء بروتوكولياً وشكليّاً للتوقيع والمصادقة؛ وكان الهدف من وجودي يقتصر على الإجابة عن أي أسئلة تقنية في حال طُرحت. عُقد الاجتماع في مكتبٍ مؤقت أُقيم في الطبقة الرابعة لمبنى تاريخيّ مهيب، يطلّ على موقع المشروع الذي كان من المفترض أن يصبح أعلى ناطحة سحاب في الولايات المتحدة عند اكتماله، ويضمّ مئات الشقق الفخمة المطلّة على بحيرة شيكاغو وقلب المدينة (بعد هجمات ١١ أيلول، اضطُر دونالد ترامب إلى تقليص المشروع وإلغاء عدد من طبقاته، بعدما ضاعفت شركات التأمين كلفة التغطية لكون المبنى صاحب لقب «أعلى ناطحة سحاب في أميركا» سيصبح هدفاً محتملاً للإرهاب...).
‏استقبلنا مدير مكتبه، ثم أمضينا أربع ساعات ونصف ساعة في انتظاره. وصل أخيراً وهو يمشي برفقة محاميه وسيدتين تحملان أغراضه وحقيبته. تقدّم إليه مدير مكتبه وأعطاه ملفاً وهمس شيئاً في أذنه، فالتفت ترامب إلى الأوراق من دون أن يقرأ منها شيئاً ورماها بعنف إلى صدره فتبعثرت على الأرض وقال «Fuck him, pick them up» («تبّاً له، التقط الأوراق!»). كان يهمّ بالجلوس حين تذكر بأنّنا هناك، فاقترب منا وصافحنا بطريقة تجعلك تشعر بأنه أسدى إليك خدمة ما. كلّ هذا وأنا مذهولٌ أراقب الرجل المسكين وهو يجمع الأوراق من أرض الغرفة، والسيدتان واقفتان من دون تعبيرٍ كالأصنام. جلس ترامب أمامنا ثم أخذ من محاميه بضع أوراقٍ دفعها إلينا قائلاً: «يمكنكما التخلص من النسخة التي لديكم؛ هذا هو العقد الجديد»، ثمّ رماه على الطاولة باتجاهنا فالتقطه مديري. وما إن بدأ بقراءته حتى توقف متعجّباً وقال: «ولكن هذا الرقم يختلف عما اتفقنا عليه» فقاطعه ترامب قائلاً: «اسمعني جيداً، هذا هو العقد. إن كنت لا تراه مناسباً ضعه على الطاولة وشكراً، نحن سوف نهتم بالباقي»...
لاحقاً في المطار، وبينما كنّا ننتظر رحلة العودة في ساعة متأخرة من الليل (إذ إن رحلتنا الأصلية أقلعت ووصلت إلى مقصدها ونحن ننتظر ترامب في مكتبه)، كان ربّ عملي جالساً في المقصف يشرب من دون توقّف. لم يكن قادراً على استيعاب فكرة أنه قد خسر، في اجتماعٍ طال عشر دقائق مع هذا الأحمق المتعجرف، ١٥ في المئة من قيمة عقد ضخم كان يعوّل عليه للسنوات المقبلة. جلست بعيداً أراقب الطائرات وأنا أفكّر بما جرى أمامي؛ أشياء كثيرة مرّت برأسي في تلك الليلة، أكثرها عن مستقبلي في هذا البلد. ولكن المستقبل كان يحمل بعد أحداثاً لم أكن أتصور حصولها، أوّلها هو أن رب العمل الذي رافقني في الاجتماع سيعرض عليّ، بعد عام تقريباً، تنفيذ المشروع في «برج ترامب» بعدما كنت قد استقلت من وظيفتي وأسّست شركتي الخاصة. لم أكن أعرف أيضاً أنّ الشركة التي لزّمتني المشروع ستفلس وتغلق أبوابها قبل أن أكمل أول مرحلتين منه ــ من أصل أربع مراحل ــ وسأضطرّ إلى إكمال التنفيذ عبر عقدٍ خارجيّ مباشر. وقد شهدت، أثناء، التفاوض على الشروط، أحد ممثلي ترامب وهو يهدّد برمي أحد المتعهّدين في بحيرة شيكاغو.
وضعت عائلة ترامب «بصمتها» مجدّداً مع اقتراب البرج من الاكتمال، قبل أن ينتقل إليه المالكون، إذ قرّرت ابنة المالك، إيفانكا، تدشين شقتها الضخمة في الطبقة السادسة والثلاثين (التي قدمها لها والدها هديّة) عبر حفلة صاخبة مع أصدقائها. مع تقدّم الليل وبتأثير الكحول، استنسب المدعوون أن يقوموا برمي ثمرات ضخمة من اليقطين من الشقة الى الأسفل، من دون أن يحتسبوا أن تسليتهم هذه ستسبّب أضراراً للناس الذين هم «تحت».
أما الأمر الثاني الذي لم أكن أتخيّله حينها، ولا أي عاقل في العالم، فهو أن يصبح هذا المستثمر الجشع المتعجرف، بعد عشرة أعوام، سيّد البيت الأبيض والعالم.
* اسمٌ مستعار لمهاجرٍ لبنانيّ يقيم في أميركا ويعمل فيها