strong>ربى أبو عمو
مثل كرة ثلج متدحرجة. شعور بـ«ردّ الاعتبار» يعادل الحقد، يتكوّن في لاوعي الشعوب مع مرور الأزمنة. وأكثر من ذلك، تنتظر الشعوب فرصة «للانتقام من التاريخ» عبر الحاضر، من خلال صورة لزعيم ربما، يجسّد هذا الطموح، رغم أنها لا تدرك هذه الحاجة في أغلب الأحيان. وكما قال أحد الفلاسفة «هناك حوادث لا تسقط من منخل الحسابات الشعبية، حتى مع مرور الوقت».
استطاع العثمانيون هزيمة الصرب عام 1389 في معركة أمسيفيلد، وتمكنوا عام 1483 من توحيد البلقان تحت سيطرتهم، لتصبح جزءاً من الإمبراطورية العثمانية للقرون الأربعة التالية. وتمكن الصرب من نيل استقلالهم عام 1878 بعد هزيمة العثمانيين في الحروب الروسية ــــ التركية، فأُعلِن قيام مملكة الصرب عام 1882.
هذه الذكرى في أغلب الظن هي أكثر من مؤلمة بالنسبة إلى الصرب القوميين، وخصوصاً أن حرب البلقان في التسعينيات شهدت مجازر تفوّق الصرب في حياكة أساليبها بحق المسلمين من الكروات والبوسنيين والكوسوفيين.
هذا التوق إلى «صربيا الكبرى»، لم يظهر بمحض الصدفة. بل أطلّ مع «المخلّص» سلوبودان ميلوسوفيتش، كما يسميه شعبه، ليعطي زخماً عاطفياً تجلّى بصورة شرسة، من خلال طرح مشروع توحيد الإثنيات الصربية في دولة واحدة.
فهذا الرجل الذي بدأ حياته أرثوذكسياً اشتراكياً منحازاً ليوغوسلافيا، والذي تبنّى إيديولوجية التعصّب القومي والديني مع «اندثار الجاذبية الاشتراكية»، تعهّد أمام «رماة الحجارة الصرب» في إقليم كوسوفو، وفي الموقع الذي شهد الخسارة الصربية أمام العثمانيين في عام 1389، أنه «لن يهزم أحد هذا الشعب مجدداً».
وفي أيار من عام 1990، حشد ميلوسوفيتش الجماهير محذراً من مخاطر «تحالف ضد الصرب»، معلناً ضرورة «وضع مصالح صربيا فوق كل المصالح والاعتبارات». وقدّم الدستور الصربي الجديد الذي سمح بتفكيك يوغوسلافيا وإعادة رسم حدود «الجمهورية الإدارية» لتشمل كل الإثنيات الصربية في دولة صربية جديدة.
هذه «الكاريزما» السياسية التي غذّاها ميلوسوفيتش بالنزعة القومية، وحق صربيا في شن الحروب حفاظاً على أراضيها، لا بل استرجاعها، كان كفيلاً بتحقيق هذا الزخم الجماهيري.
وما ساعده على النجاح، هو انشغال الولايات المتحدة والدول الأوروبية عن البلقان بأمور كثيرة. كانت الولايات المتحدة منهمكة في أول حرب تخوضها مع العراق، فألقت مهمة إدارة الأزمة على عاتق الأوروبيين.
كل هذه التفاصيل التي رافقت فترة التسعينيات، كانت مجرّد علامات رسمت طريق سير الأزمة البلقانية. لكن المعطيات الإقليمية والدولية والبلقانية تغيّرت اليوم؛ فالدول الغربية التي إما وقفت على الحياد، وإما رعت النزعة الصربية ضمناً، قبل عام 1999، اتخذت اليوم وجهة مغايرة، تجلّت بصورة مفرطة في دعمها رغبة الغالبية الألبانية في كوسوفو بالاستقلال عن صربيا.
هذه المتغيّرات تستحضر «سيناريو مشابهاً»، يساعد على رسم الخطوط العريضة لأفق الأزمة التي فرضها إعلان استقلال الإقليم، الذي يقابله رفض صربي، بالتوازي مع إعادة اشتعال القومية الصربية. ففي شهر شباط من عام 1992، أجرت البوسنة استفتاءً شعبياً بتشجيع أوروبي، تلاها إعلان استقلال البوسنيين في آذار من العام نفسه. النتيجة كانت مهاجمة «نمور» الصرب شمال شرق البوسنة، فاقترفوا جرائم «التطهير العرقي بالترهيب».
وفي السادس من نيسان، اعترفت المجموعة الأوروبية بالبوسنة دولة مستقلة، فيما أعلن القادة الصرب البوسنيون في السابع من نيسان في بانيا لوكا استقلال «جمهورية البوسنة ــــ الهرسك الصربية»، وطالبوا بإعادة تسميتها جمهورية «صربسكا».
الفرق بين هذين التاريخين، ورغم التشابه في الحوادث، يتجلّى في غياب صورة «المخلّص» التي جسّدها ميلوسوفيتش في أغلب الأحيان. فخطابات زعيم الحزب الراديكالي الصربي توميسلاف نيكوليتش، والرئيس الحالي بوريس تاديتش، ورئيس الوزراء فويسلاف كوستونيتشا، تبدو كأنها تُتلى في كهف مهجور، فترتد إلى أصحابها، ولا تحرّض العاطفة الصربية لافتراس الغير.
ربما تحتاج «الثورة القومية الصربية» المقبلة إلى صورة الزعيم. فإما أن ينصاع الصرب إلى مفهوم الخسارة، وإما يحشدون أنفسهم حول الزعيم المناسب الذي يتقن لعبة «الكاريزما».