strong>ارنست خوري
كثيرة هي التناقضات في تاريخ تركيا الحديث.
أمّا أن تصل الغرابة إلى وجود كنيسة أرثوذكسيّة منشقّة عن البطريركيّة اليونانية الأم، تعتمد مبدأ التصفيات وكسر التقاليد الإكليريكيّة تحت شعار «القوميّة التركيّة تعلو فوق كلّ اعتبار»، فأمر لم يكن ممكناً كشفه قبل كشف النقاب عن عصابات ergenekon

قصّة «البطريركيّة الأرثوذكسيّة التركيّة» أقرب إلى الأساطير والخرافات من الواقع، لكنها حقيقيّة. يمتزج فيها غموض روايات الأشباح، وأفلام رعب ألفرد هيتشكوك، مع أخبار الملوك الذين يتوارثون السلطة، وسيناريوات مسلسلات المافيات الإيطاليّة.
ورغم أنّها تأسّست منذ عام 1921، فإن الصحافة التركيّة كادت تنسى وجودها، حتّى أعادت قضيّة توقيف واعتقال نحو 30 من زعماء عصابة ergenekon قبل نحو شهر، تسليط الضوء على أبطال هذه الكنيسة التي تبيّن أنها المموّل الرئيسي لجرائم هذه «الدولة داخل الدولة»، وأنها قد نسجت أفضل العلاقات مع قادة المؤسّسة العسكرية التركيّة منذ عهد أتاتورك، حتّى باتت تُسمّى «كنيسة أتاتورك»؛ كنيسة أخذت على عاتقها مهمّة تنظيف الدولة من «الأعداء المحليّين»، وهي العبارة المطّاطة في تعريفها، إذ تشمل كلّ من تسوّل له نفسه عدم التعبّد ليل نهار للقوميّة التركيّة ولمؤسّسها مصطفى كمال.
ما هي هذه الكنيسة التي تُعَدّ من بين أكبر أصحاب الثروات في تركيا، والتي لا تضمّ في صفوفها حاليّاً أكثر من 10 أشخاص ينتمون إلى عائلة واحدة يتوارثون تاج البطريركيّة، ويخالفون كلّ التعاليم الكنسيّة وسلوكيّاتها، إلى حدّ أنهم متّهمون بتصفية عدد من المبشّرين ورجال الدين المسيحيّين، «ممّن اتخذوا من التبشير سلاحاً ضدّ الجمهوريّة» بحسب أدبيّات هذه البطريركيّة؟
بدأت القصّة قبل نحو 90 عاماً، تحديداً أثناء «حرب الاستقلال» التركيّة ـــــ اليونانيّة بين عامي 1919 و1922، عندما احتلّت اليونان أجزاءً من الأناضول التركي. حينها، وقفت البطريركيّة الأرثوذكسيّة المسكونيّة في إسطنبول، إلى جانب الجيش المحتلّ. غير أنّ كاهناً يُدعى بافلوس كاراهيساريتيس، أو البابا أفتيم، من مدينة قيصري في الأناضول، خالف موقف كنيسته، ووقف إلى جانب جيش بلاده، وأعلن انشقاقاً في صفوفها، وعيّن نفسه عام 1921، بطريركاً لما سمّاه «البطريركيّة الأرثوذكسيّة المستقلّة في الأناضول»، فنال إعجاب الجنرال أتاتورك الذي اعترف به رئيساً للكنيسة في البلاد. ثمّ غيّر كاراهيساريتيس اسمه عام 1924، ليصبح زكي إرنيرول. وفي ذلك العام، بعدما انتهت الحرب، جرت عمليّات تبادل سكّاني بين تركيا واليونان، فرُحِّل جزء كبير من مسيحيّي تركيا إلى البلد الجار ـــــ العدو. لكن أفتيم رفض إلى جانب أفراد عائلته الانتقال إلى الجانب الآخر من بحر إيجيه، وهو ما دفع الدولة التركيّة الناشئة إلى دعمه على كل المستويات: مادّياً ومعنويّاً وسياسياً. زكي إرنيرول خالف القاعدة الإكليريكيّة التي تحرم البطريرك حقّ الزواج وإنجاب الأولاد. وعندما توفّي الرجل عام 1962، خلفه نجله تورغوت (جورج) إرنيرول على رأس المؤسّسة المنشقّة، واتّخذ من «البابا أفتيم الثاني» اسماً دينياً لنفسه. ثمّ توالى كلّ من نجل تورغوت، سلجوك إرنيرول (أفتيم الثالث) وبعده أوميت (أفتيم الرابع) مقاليد السلطة الدينية. أمّا شفقي إرنيرول، التي تُحاكَم اليوم بالانتماء إلى عصابة ergenekon، فهي ابنة أفتيم الرابع وشقيقة البابا الحالي.
مصدر اللغز والغرابة في قصّة «كنيسة أتاتورك»، أضاءت عليها صحيفة «توركيش دايلي نيوز» المقرّبة من العسكر، في تحقيق نشرته في الثاني من شباط الجاري، وصف فيه أحد سكّان الحيّ الذي تملكه البطريركيّة التركيّة الوضع السائد داخل ممتلكات هذه المؤسّسة.
يقول حسين كاراشيمشيك، وهو يسكن في محيط مقرّ البطريركيّة منذ سنوات، ويعمل في متجر تملكه الطائفة، إنّه لم يسمع يوماً أصوات صلوات أو موسيقى ترانيم ترتفع من كنائسها، حتّى إنه مرّت فترة طويلة لم يرَ فيها مؤمنين يدخلون إليها، فتقتصر الحركة «على دخول شباب يرفضون التكلّم مع الناس والإجابة عن الأسئلة»، حتّى إنّ التصوير في محيط الحيّ المذكور ممنوع. يضيف كاراشيمشيك، أنه رغم مرور 5 سنوات على سكنه في الشارع، «لم أجرؤ يوماً على طلب كوب من الماء من أحد من جماعة البطريركيّة».
أمّا أبرز عناصر الإثارة التي تكمن في قصّة هذه الكنيسة، فهو مواقفها السياسيّة، التي كانت تعبّر عنها شفقي إرنيرول قبل توقيفها. فهذه المرأة، الناشطة في حزب «الحركة القومية التركيّة» اليمينية المتطرّفة قومياً، عبّرت في عديد من المناسبات عن غضبها ممّا سمته «مسلسل مؤامرات» يرتّبها أعداء تركيا. وهؤلاء الأعداء ليسوا سوى «جمعيات المبشّرين» المسيحيّين. وهي قالت في أحد خطاباتها الشهيرة عام 2005، إن «النشاطات التبشيريّة تهدف إلى أشياء أبعد بكثير من الأهداف الدينية، وهو العمل على القبض على دولتنا وتهديد الأمن الوطني للدولة»، وهي التي تُحاكَم اليوم بالوقوف خلف قتل الكاهن سانتورو في مدينة طرازبون، و3 مبشّرين في ملاطيا.
كما أنّ إرنيرول، وهي التي ترشّحت للانتخابات التشريعية عن «الحركة القوميّة» في عهد مؤسّس الحزب، أرباسلان توركيش، ولم تصل إلى البرلمان، كانت تكتب في إحدى صحف الحركة، تحت اسم مستعار هو «تركيا اليسار». تركّزت مقالاتها على خطاب قومي مع نكهة عنصريّة ضدّ الأكراد.
ويجمع من تابعوا قضيّة البطريركيّة منذ نشأتها، على أنّ الكنيسة مثّلت منذ وفاة أتاتورك عام 1938، النسخة الأيديولوجية الأكثر تطرّفاً عن الشوفينية التركية. وقد رأى المدّعي العام في المحكمة التي تقاضي ergenekon، أنّ البطريركيّة مثّلت الرأس المدبّر للعصابة وعصبها المالي خصوصاً، ووضعت ممتلكاتها وكنائسها تحت تصرّفها على مدى أعوام. ومع كشف القضاء على محتويات مباني البطريركيّة وكنائسها، لاحظ المحقّقون أنّ شعار البطريركّية هو عبارة عن صليب يتوسّط صورة عملاقة لأتاتورك مطبوعة على علم تركيا. وعلى حائط مكتب إرنيرول، وُجِد ملصق آخر لصورة أتاتورك تحته عبارة مثيرة للجدل: «عندما يكون البلد مهدّداً كل شيء آخر يصبح تافهاً»، وهي العبارة التي قالها يوماً أتاتورك وأصبحت في ما بعد مبدأ كلّ أطياف الحركة القوميّة التي فسرت عبارة «كل شي يصبح تافهاً» على أنها تشمل حقوق الإنسان والحريات العامّة...
وعن مصير هذه البطريركيّة المنشقّة، يؤكّد الكاتب إلشين ماكار أنّه لا وجود حاليّاً لأتباع لهذه الكنيسة من خارج عائلة إرنيرول. أمّا عن خلفاء البطريرك الحالي، شقيق شفقي، فيشير ماكار إلى نجلي شقيقة شفقي، أوميت وإركين، بالإضافة إلى ابن تورغوت، تيمور إرنيرول.
مع تقدّم التحقيقات في قضية ergenekon، قد تعرف «البطريركيّة الأرثوذكسيّة التركيّة» نهايتها وتُطوى معها صفحة من صفحات الألغاز التي شابت تاريخ تركيا الحديثة. والمستفيد الأوّل قد تكون البطريركيّة الأرثوذكسيّة المسكونيّة، التي تدلّ جميع المعطيات على أنها ستستردّ صفتها العالميّة وستعود الممثّل الرسمي الوحيد لنصارى تركيا ولجميع أتباع الطائفة الأرثوذكسيّة في العالم.


«اللغز الأكبر في التاريخ من دون منازع»

يشرح الكاتب إلشين ماكار، الأستاذ الجامعي وصاحب الكتاب الذي أرّخ مسيرة هذه الكنيسة في كتابه «البطريركيّة اليونانية في إسطنبول» عام 2003، في حديث لصحيفة «زمان» المقرّبة من حزب «العدالة والتنمية»، الخلفيّات الحقيقيّة لانشقاق البابا أفتيم عن البطريركيّة المسكونيّة، غير تلك المتعلّقة بالموقف الذي اتّخذه من حرب الاستقلال. ويؤكّد ماكار أنّ البابا أفتيم المؤسّس، حُرم من درجات الترقّي في سلّم الرتب الدينيّة، حيث أُجبر على البقاء كاهن رعيّة صغيرة في قرية نائية، لافتاً إلى أنّ الرجل كان ينظّم القداديس باللغة التركيّة بعكس القاعدة التي تنصّ على اعتماد اللغة اليونانيّة لجميع مناسبات أبناء الطائفة الأرثوذكسيّة التي ترى أنّ مرجعيّتها هي اليونان.
وفي كلّ مرة كان يتوفّى أحد أفراد عائلة هذه البطريركيّة، كانت الكنيسة ترفض دفنه في مدافنها الشرعيّة، فيتولّى أحد أقرباء المتوفّى القيام بشعائر الدفن والجنازة، إذ كانت تتحوّل هذه الجنازة إلى شبه مناسبة وطنيّة يحضرها كبار رجال الدولة.
والكنيسة حاليّاً، يشبّهها الصحافي في جريدة «حرييت»، هادي أولونغين، بـ«المعبد الخالي من المؤمنين»، مشيراً إلى أنّ قصّتها هي «اللغز الأكبر في التاريخ من دون منازع». وتملك البطريركيّة حالياً عدداً هائلاً من الأملاك والأراضي والأموال والأسواق التجارية في كاراكوي، أحد أرقى أحياء اسطنبول.