تنوّع اجتماعي تهدّده الهجرة الداخليّة والخارجيّةكيب تاون ــ بسّام الطيارة
أسهمت حكمة «الأسد» (لقب المناضل الرئيس السابق لجنوب أفريقيا، نلسون مانديلا، الأكثر تحبباً لدى مواطنيه)، في جعل الانتقال من مجتمع عنصري بغيض استفز سكان الأرض قاطبة إلى مجتمع متعدد، انتقالاً سلميّاً من دون إراقة الدماء.
لكن الجميع يتّفق على أن مبدأ «محكمة التسامح»، التي أقرت مباشرة بعد انهيار نظام الفصل، مثّل مرتكزاً أساسياً لعملية الانتقال السلمي، إذ كانت المحاكمات تتوجّه لكتابة التاريخ وتحديد المسؤوليات لا للاقتصاص.
في هذا الصدد، يقول «مهاجر أوروبي»، جاء بعد وصول الأفارقة إلى الحكم، «كان بإمكان السود آنذاك ذبح كل البيض من دون أن يحرّك العالم ساكناً، ولكنهم لم يفعلوا، وهو ما سهّل بناء المجتمع الأفريقي الجنوبي الجديد».
والمجتمع هنا متعدد ومتنّوع بحق؛ معظم السكان من ذوي الأصول الأوروبية، إضافة إلى أكبر تجمعيّن للسكان من أصول هندية وماليّة خارج آسيا. وبحسب آخر إحصائيات عام ٢٠٠٨ فإن نسبة معتنقي المسيحية هي بحدود الـ ٤٥ في المئة، بينما يُعدّ المسلمون نحو ٣٦ في المئة، والهندوس ١،٥ في المئة، واليهود نحو ٢ في الألف. أمّا اللادينيون فيمثّلون ١٥ في المئة مع بعض الديانات المحليّة.
تنوّع يتمظهر في الشوارع ووسط المدن وفي المطارات ومحطات سكك الحديد، وفي بعض المطاعم وأماكن اللهو، ولكنه يغيب عن معظم «المناطق السكنية»، حيث يؤدّي مستوى الدخل دوراً في فرض فصل سكني يمثّل أسس الفصل الاجتماعي الواضح.
تجهد الحكومة للتخلّص من «مدن الصفيح» المعروفة بـ«تاون شيب»، لذا خصصت برنامجاً لبناء ٢٥٠ ألف وحدة سكنية كل سنة، وذلك لتقديم «منزل» إلى كل عائلة مقابل سعر رمزي جداً يدفع بالتقسيط بمعدل دولارين في الشهر لمدة ١٠ سنوات، وذلك لحثّها على الخروج من مدن الصفيح. إلا أنه بعد مرور ٥ سنوات على إطلاق الحملة فإن أعداد منازل الصفيح لم تتراجع، لا بل إنها زادت في بعض المناطق. ويُفسّر أحد العاملين في برنامج هذه الظاهرة أن الوحدات السكنية صغيرة جداً ولا تكفي العائلة التي قدمت إليها، وهو ما يدفعها إلى بيعها لأشخاص لا يحق لهم الاستفادة من هذا البرنامج، ويشير إلى أنه يوجد تسابق بين ارتفاع أعداد السكان وبرنامج تأهيل السكن.
ومن العوامل التي تزيد من حدة التفاوت الاجتماعي، المداخيل؛ الحد الأدنى للأجور هو ١٥٠٠ راند (١٠٠ دولار تقريباً)، فيما معدل الرواتب للطبقات المتوسطة لا يتجاوز الـ٤٥٠٠ راند (٣٠٠ دولار). بالطبع فإن هذا لا يعكس الحقيقة الاقتصادية لمستوى حياة مجتمع جنوب أفريقيا، الذي يوازي مستوى الدول المتقدمة، وهو ما يشير إلى التفاوت الكبير في المداخيل بين شرائح الشعب الواحد.
ورغم كون الطبابة شبه مجانية، فإن التفاوت يمس أيضاً الخدمات الصحية ونوعيتها، بينما يبتعد البيض الأثرياء الى جانب «الطبقة الأفريقية الجديدة» عن نظام الدراسة الرسمي الذي تؤمنه الحكومة وتخصص له ميزانيات ضخمة، يزداد التوسع باتجاه المدارس الخاصة الإتنية بقوة بين الجاليات المسلمة المالية والهندية، إضافةً إلى عودة عدد متزايد من البيض إلى المدارس الدينية المسيحية.
وتمثّل تيارات الهجرة المتضاربة عاملاً مهماً لقراءة مستقبل جنوب أفريقيا، وهي على نوعين: الهجرة الداخلية بعدما رفعت كل الحواجز التي كانت تمنعها، وهو ما يقود نحو هجرة من الأرياف باتجاه المدن، ويسهم في زيادة الطلب على منازل الصفيح في أحزمة الفقر التي تحيط المدن، مع كل ما يندرج من نتائج اجتماعية في هذه الحالات مثل العنف وغياب الأمن وتفشي الأمراض، ولا سيما مرض فقدان المناعة (الإيدز). يدفع هذا عدداً متزايداً من البيض للهجرة نحو نيوزلندا وأوستراليا والولايات المتحدة، وهم بغالبيتهم من حملة الشهادات التقنية العالية والأطر، التي تمثّل محرّك الآلة الاقتصادية في جنوب أفريقيا، وتحل محلها رويداً رويداً أطر أفارقة تستفيد من الفراغ ومن سياسة «التمييز العنصري الإيجابي»، بحيث يجري تفضيل أفريقي على أبيض في حال تعادُل الشهادات والخبرة. كما تتدفق أعداد من المهاجرين من الدول الأفريقية المجاورة الساعين وراء مستوى دخل أرفع وخدمات اجتماعية لا يحصلون عليها في بلدانهم.
ومنذ انهيار نظام الفصل العنصري كانت السياسة في بريتوريا تقوم على عدم «صد الأفارقة»، الذين وقفوا وقفة واحدة إلى جانبهم لمحاربة النظام العنصري، إلا أن تراجع مستوى المعيشة وارتفاع مستوى العنف في المدن، إلى جانب البطالة التي تمس إحصائياً فقط مواطني جنوب أفريقيا، فإن الحكومة في صدد التشدد في سياسة الهجرة الوافدة، وهي خطوة تحمل في طياتها التناقض الذي تعيشه البلاد في جميع الأوجه.