دبلوماسيّوها ما عادوا يريدون «إزعاجاً» بعد اليومنيويورك ــ نزار عبود
منذ تولّي الرئيس الأميركي باراك أوباما منصبه في نهاية كانون الثاني 2009، والأمم المتحدة تشهد هدوءاً غير اعتيادي. بعض هذا الهدوء إيجابي يعكس حواراً دولياً على مستوى القمم، والبعض الآخر سلبي لكونه ينطوي على الكثير من التكتّم وعدم الرغبة في تشاطر المعلومات وزيادة الديموقراطية والشفافية. هكذا تحول عدد كبير من الجلسات الدورية لمجلس الأمن الدولي إلى مجرد جلسات تشاور مغلقة بعيداً عن أبصار الإعلاميين وآذانهم، وحتى عن أعين الدبلوماسيين. وكانت مندوبة الولايات المتحدة سوزان رايس، عكس سلَفَيْها جون بولتون وزلماي خليل زاد، أقلّ تواصلاً مع وسائل الإعلام، مفضّلة «الحوار الثنائي المجدي» على التصريحات الإعلامية «الطنّانة».
وبعد عام على تولّي أوباما ولايته، حدثت تطورات بنيوية على التركيبة الفيزيولوجية لمباني الأمم المتحدة، وأخرى تنظيمية تصبّ في خانة التوجّه نحو كتم المعلومات، إذ انتهى العمل في المبنى المؤقت للأمانة العامة في الحديقة الشمالية، وانتقلت الكثير من المكاتب الحساسة من المبنى الزجاجي الشهير المؤلف من 38 طبقة إلى المبنى الصغير المؤقت، فيما تبعثرت مكاتب أخرى خارج المقر الرئيسي للمنظمة الدولية، ونقلت إلى مبان استؤجرت في حي مانهاتن يبعد بعضها أميالاً عن المقرّ الأساسي. أما وسائل الإعلام، التي لديها 150 مندوباً مقيماً في المقر الرئيسي ونحو 100 مندوب زائر، فخُصّصت لهم طبقة من مكتبة داغ همرشولد، المبنى الصغير الواقع في جنوب الأمم المتحدة قرب الشارع 42. ووجد هؤلاء أنفسهم في وضع لا يحسدون عليه. فبعدما كانت المسافة بينهم وبين الأمانة العامة ومجلس الأمن الدولي والجمعية العامة لا تزيد على بضع عشرات من الأمتار، إذ بها تصل إلى نحو نصف كيلومتر (من الشارع 42 حتى الشارع 48) داخل ممرات متعرّجة ومصاعد بطيئة، علماً بأنّ الكثير من المراسلين المتخصصين في الأمم المتحدة تقدموا في السن، حتى إنّ بعضهم ناهز التسعين، وجلّهم تجاوز العقد الخامس. وحتى الشبان منهم، يفضّلون أحياناً المكوث في المكاتب ومشاهدة المواجهات الإعلامية من على شاشة التلفاز عوض اللهاث بين مبنى وآخر، إما بسبب البعد الجغرافي أو خشية أن يصل إلى المكان متأخراً وتفوته التصريحات.
أما الإحاطة الإعلامية اليومية للأمانة العامة فتحولت إلى نوع من استنطاق للمتحدث باسم الأمين العام مارتين نيزركي، الذي يكتفي، في معظم الحالات، إما بتكرار بيانات وتصريحات صحافية سابقة أو يعد بالرد على السؤال في موعد لاحق أو في مكتبه على انفراد.
في أوائل الأسبوع الماضي، تفجّرت المشاكل الإعلامية بقوة في الأمم المتحدة، بعدما أخليت قاعة مجلس الأمن القديمة ونقل المجلس إلى قاعة تقع في الطبقة السفلية من مبنى الجمعية العامة. مكان يبعد عن مكاتب وسائل الإعلام نحو 100 متر بحساب الطبقات والممرات. وصمّم المنبر الإعلامي بحيث يمنع التماس بين الصحافيين والدبلوماسيين، إلا إذا رغب هؤلاء في التحدث إلى المراسلين، وهي حالات نادرة.
كان الوضع في السابق يلزم الدبلوماسيين بالمرور من أمام الصحافيين والاحتكاك بهم. وضع كان له الفضل في تكوين صور واضحة عما يجري خلف الجدران وفي غرف التشاور المغلقة، ويساعد الصحافيين على نقل صورة قريبة إلى حد ما من أجواء الكباش الدبلوماسي الدولي. هذا الوضع، إلى جانب كل المسائل الأخرى، حدا برجال الإعلام إلى مقاطعة العديد من المؤتمرات واللقاءات الصحافية، إذ يلاحظ أنّ بعثرة الأماكن جعلت حضور المؤتمرات يقتصر على أعداد قليلة جداً من المراسلين، كذلك أدّت إلى إرسال رسائل احتجاج سلّمت باليد إلى أعضاء مجلس الأمن الدولي أو مندوبين عنهم باسم جمعية المراسلين في الأمم المتحدة. وطالب هؤلاء بإعادة النظر في الصيغة الحالية لمدخل مجلس الأمن، بعد سماع كلام على لسان مندوب فرنسا الدائم جيرار آرو يفيد بتفضيل عدم الاحتكاك برجال الإعلام الذين «يثيرون غضبه» أحياناً.
لكنّ التعتيم في الأمم المتحدة، الناجم عن توجيهات من الدول الغربية الكبرى في مجلس الأمن (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا)، يتجاوز مسألة الاحتكاك برجال الصحافة إلى أعضاء البعثات الدبلوماسية نفسها غير الممثّلة في المجلس، التي لن يسمح لها بالحضور حتى لو كان المجلس يناقش قضية تخصّها. كذلك قرر المجلس منع مندوب المكتب الإعلامي للأمين العام من متابعة جلسة المشاورات وتسجيل الملاحظات، وطلب من الأمم المتحدة تقليص عدد الخبراء الذين يحضرون جلساته. وقال أحد المراسلين إنّ «هذا يشبه كثيراً ما تمارسه الرقابة الإسرائيلية على وسائل الإعلام. وقد لا يمضي وقت طويل حتى تخرج تقارير المراسلين من الأمم المتحدة تحمل عبارة «سمح بالنشر»».
المفارقة أنّ أعضاء مجلس الأمن الدولي يخدعون أنفسهم بتصوّر إمكان تطبيق هذه القرارات في ظل وجود تنوّع كبير داخل المجلس وفي الأمم المتحدة ككل. فهل يمكن مثلاً إبقاء أيّ شيء سرّي في المنظمة المؤلفة من 192 بعثة؟ إذ كيف يمكن أن يتفق أعضاء مجلس الأمن الدولي الخمسة عشر، ومساعدوهم في المجلس وفي البعثات على كتمان نقاشات ومواقف ترسل عادة بتفاصيلها إلى حكوماتهم؟ وإذا كانت لدولة أو مجموعة دول مصلحة في الكتمان، فهل للدول الأخرى المصلحة نفسها؟
أعضاء مجلس الأمن الدولي وعدوا بإعادة النظر في هذه الإجراءات، والمراسلون ينتظرون غاضبين. ويقول بعض أقدم المراسلين إنّ الهوّة تتّسع بين الإعلام والأمم المتحدة، ليس بالجغرافيا وحدها، بل بالنفوس أيضاً.