بالتزامن مع انتهاء الجلسة الثانية للجنة المؤشر، عُقد في وزارة العمل اجتماع بين وزير العمل مصطفى بيرم والمدير العام لصندوق الضمان الاجتماعي محمد كركي. الأخير عرض على بيرم أرقاماً تدلّ على أن أصحاب العمل يزوّرون تصاريحهم المقدّمة للضمان الاجتماعي لإخفاء الرواتب الفعلية المسدّدة للأجراء العاملين لديهم بهدف التهرّب من تسديد الاشتراكات المترتّبة عليها. وتبيّن في الجلسة أن 49.98% من مجموع عدد الأجراء المصرّح عنهم للضمان الاجتماعي، يقعون ضمن شريحة الرواتب التي تقلّ عن 1.1 مليون ليرة، في مقابل 81.57% للشريحة التي لا تتجاوز «الحدّ الأقصى للكسب الخاضع للاشتراكات»، أي 2.5 مليون ليرة. فإذا أخذنا في الاعتبار أن شريحة الحدّ الأقصى هي الشريحة الأشمل والأكثر تعبيراً من أجل دراسة التهرّب من التصريح للضمان، يتبيّن أن 61% من الأجراء يقعون ضمن شريحة الـ1.1 مليون ليرة، أي أقلّ بنحو 41% من الأجر الوسطي للمضمونين المسجّلين في الضمان والبالغ 1.88 مليون ليرة. وهذا الأمر لا يترك مجالاً للشكّ بأن هناك تلاعباً ما في التصاريح وتهرّباً من تسديد الاشتراكات.
المصدر: الضمان الإجتماعي، الأخبار | أنقر على الرسم البياني لتكبيره

بهذه البساطة، حصل الوزير على أداة للتفاوض مع أصحاب العمال في إطار معركة ترقيع الأجور الجارية حالياً. بدت هذه الأداة مناسبة جداً لترويج فعّاليتها في مقابل النوايا الخبيثة لأصحاب العمل بالحفاظ على أرباحهم الكبيرة على حساب تآكل تعويضات نهاية خدمة العمال. المشكلة هنا تكمن في أن هذه الإحصاءات متوافرة منذ سنوات، لكنّ الضمان لم يتحرّك أبداً لمواجهة واقع هذا الحال إلا لأنه يقدّم خدمات سياسية ذات طابع زبائني. فالأمر لا يتعلق بتهرّب أصحاب العمل، بل يشمل أيضاً السماح لهم بالتهرّب طوال عقود، ويشمل أيضاً العقل السياسي الذي تدار فيه معركة تصحيح الأجور. هذه المعركة ما زالت محصورة بالتفاوض مع أصحاب العمل على حجم الزيادة والشطور التي تلحقها الزيادة على الأجر، لا على تسوية نزاع كامل بين أصحاب العمل والعمال، وبين أصحاب العمل والمؤسسات الرسمية. فللعمال حقوق على أصحاب العمل، كما للمؤسسات الرسمية حقوق عليهم أيضاً.
وبهذا العقل السياسي، تمكّن أصحاب العمل من حرف النقاش المتصل بتصحيح الأجور، انطلاقاً من حجم الأزمة ومشاركة أصحاب العمل ولا سيما ممثليهم في الهيئات التي ينضوون فيها، نحو الحفاظ على موقعهم في بنية النموذج المنهار. هم كانوا يمانعون أي تصحيح أو أي إصلاح في هذا النموذج، بل كانوا شركاء كاملين في تأسيسه والترويج له، واليوم يعملون على إخفاء مفاعيله في تدمير المجتمع وتفكيك المؤسّسات. مسؤوليتهم عن هذه المشاركة لا تقتصر على تسوية نزاع مع العمال والدولة تقتصر على إصلاح آليات التهرّب ومنح العمال تعويضات لائقة، بل يجب أن تشمل مشاركتهم في تصحيح ضريبي يقدّم الحدّ الأدنى من الضمانات لاستمرارية المجتمع. يجب عليهم أن يفهموا أن إقرار التغطية الصحية الشاملة وتمويلها من الموازنة العامة بواسطة أدوات ضريبية تصيب الفئات الأكبر دخلاً والأكثر ثروة في المجتمع هو الأمر الطبيعي لتطوير نموذج اقتصادي قابل للحياة والإنتاج. أي مقاربة مختلفة ستكون قابلة للانهيار مجدداً في وقت قريب أو بعيد كما حصل في النموذج الحالي الذي تأجّل انهياره منذ منتصف التسعينيات لغاية اليوم بفعل التمويل السياسي الخارجي والألاعيب المحلية لتبديد الودائع وتحويلات المغتربين.
رغم ذلك، فإن هذه المقاربة لا تجد آذاناً صاغية لدى صانعي القرار الملتهين حالياً بما يسمّونه إجراءات إنقاذية عاجلة هي بمثابة ربط نزاع لمصلحة إعادة إنتاج النموذج المنهار. فالإنقاذ يعني تأجيل البتّ بالقضايا الأساسية، وهذا الأمر يمنح المسؤولين وقتاً أطول لصياغة مقاربات أكثر فعّالية في إعادة إنتاج النموذج نفسه، ويترك الفئات الأكثر تهميشاً والأجراء بلا أي نوع من أنواع الحماية. بلا تغطية صحية، وبلا تأمين ضدّ البطالة، وبلا تعليم مجاني... لن يكون أمام هؤلاء سوى الهجرة أو القبول بالفقر المتعدّد الأبعاد المفروض عليهم.
في الواقع، المسار الإنقاذي يترافق مع رغبة أصحاب العمل بأكل المزيد من تعويضات نهاية الخدمة للعمال عبر تجزئة آلية احتساب التعويض إلى ثلاثة أجزاء وحصر مضمون المادة 51 من قانون الضمان التي تحدّد مقدار التعويض بنهاية عام 2020 وأن لا تخضع أي زيادات تليها لقاعدة «شهر عن كل سنة خدمة»، وبإعفاءات ضريبية مختلفة قُدّمت لوزير المال في ورقة تشمل:
- إعفاء المكلّفين من ضريبة الدخل بكلّ أنواعها وضريبة الأملاك المبنية لعامَي 2020 و2021.
- تسوية ضرائبية بكلّ أنواعها تشمل الغرامات، وباستثناء ضريبة توزيع الأرباح.
- إعادة تقييم الموجودات والأصول الثابتة.
- إعفاء من رسوم الطابع المالي بالنسبة إلى بيع الأسهم والسندات.