تبيّن الإحصاءات الواردة من الجامعات اللبنانية الست الكبرى، والتي تغطّي أكثر من 90% من مُجمل نتاج البحث العلمي في لبنان، أن نسبة الطالبات الإناث في مرحلة الدكتوراه تصل إلى 60%، وتستحوذ الإناث على 72% من مجمل مِنح الدكتوراه المُحصّلة من المجلس الوطني للبحوث العلمية. لكن عند الانتقال إلى العمل في هذه الجامعات يتبيّن وجود تسرّب في القدرات العملية، إذ تنخفض مشاركة الإناث في مجال التعليم والبحث العلمي إلى أقل من 36%، وتستمرّ في الانخفاض كلّما ارتفعنا بالسلّم الوظيفي لتصل إلى 21% في منصب عمادة الكلّيات الجامعية، و8% في منصب رئاسة الجامعات.هذه الإحصاءات يستعرضها «المرصد الوطني للمرأة في الأبحاث: دوركنَّ» الذي يشرف عليه المجلس الوطني للبحوث العلمية بالتعاون مع منظّمة الأونيسكو. وهي إحصاءات تعبّر عن هدر واضح في الاستثمار المعقود في الدراسات العليا عند تقريش عوائده بعد الانتقال إلى مرحلة العمل، إذ ينطوي على تقليص لفعالية المرأة في المجال البحثي، وأيضاً على تغييبٍ لدورها عن عملية صنع القرار العلمي، ما يؤدّي إلى إضعاف العائد البحثي والعلمي والابتكار كنتيجة مباشرة لعدم الاستفادة من قدراتها العلمية.
إلّا أن مقاربة هذه الأرقام، وفقاً لمديرة برنامج منح الدكتوراه في المجلس الوطني للبحوث العلمية ومنسِّقة «دوركنَّ» تمارا الزين، لا تقتصر على تحليل نسبة مشاركة المرأة في البحث العلمي، بل تتخطّاها للوصول إلى فهم منظومة رأس المال العلمي في لبنان وآليّاته وأثر انسحاب النساء منه على الاقتصاد الكلّي.

60%

هي نسبة الطالبات الإناث في مرحلة الدكتوراه لكن عند الانتقال إلى العمل يتبيّن وجود تسرّب في القدرات العملية إذ تنخفض مشاركة الإناث في مجال التعليم والبحث العلمي إلى أقل من 36% وتستمرّ في الانخفاض لتصل إلى 21% في منصب عمادة الكلّيات الجامعية و8% في منصب رئاسة الجامعات


تشير الزين إلى «أن الدكتوراه هي استثمار وبناء علمي في شخص ما ليُنتج المعرفة والابتكار لاحقاً، والاستفادة منهما في الاقتصاد والتنمية. في لبنان، تشكّل الإناث النسبة الأكبر من طلّاب الدكتوراه، حتّى في المجالات التي لطالما اعتُبرت حكراً على الذكور، وهو ما يعني أن هناك توجّهاً واضحاً لدى الفتيات لإتمام الدراسات العليا، وهو ما يستوجب استثماراً ملحوظاً تُنفِقه الأسر على تعليمهن، والذي يُفترض أنه نقطة البداية للاستفادة من معارفهن فيما بعد. لكن عند النظر في عوائد هذا الاستثمار في البحث العلمي، يتبيّن أنها منقوصة بسبب هدر الكثير من الطاقات العلمية، كون نسبة الباحثات الجامعيات تنخفض بشكل كبير، لتبلغ تقريباً ثلث الفاعلين في هذا المجال».
يُعدُّ البحث العلمي من العوامل الرئيسية المُساهمة في الإنتاج المعرفي والابتكار وبالتالي في تطوير المجتمع والتنمية، إلّا أن لبنان يعاني من نقص في هذا المجال بشكل عام، والتجلّيات الأولى لهذا النقص تكمن في تقليص الميزانيات التي ترصدها الدولة للإنفاق العلمي، على الرغم من ازدياد عدد الجامعات المنضوية في منظومة الأبحاث، فضلاً عن ترسيخ البحث العلمي ضمن المهام الرئيسية للأستاذ الجامعي، ما يُترجَم بتزايد الإقبال على البرامج التي يموّلها المجلس الوطني للبحوث العلمية إن كان لدراسات الدكتوراه أو لدعم المشاريع البحثية في الجامعات.
في الوقت نفسه، يعاني لبنان من أزمة بنيوية تنعكس بارتفاع معدّلات البطالة فيه، فيتمّ سدّ جزء من فجوة نقص العمالة من خلال هجرة اليد العاملة، ولا سيّما الماهرة منها، إلى الخارج. وهو ما يعني أن الاستثمار في تعليم وإعداد رأس المال البشري، والذي يقع عاتقه على ميزانية الأسر بشكل رئيسي، تتمّ الاستفادة منه في تطوير الاقتصادات الأجنبية التي تستقطب العمالة اللبنانية المهاجرة.
ووفقاً للزين «صحيح أن الذكور هم الغالبية من المهاجرين الذين يخسرهم الاقتصاد المحلّي وتستفيد منهم اقتصادات أخرى، إلا أن هناك عائداً غير مباشر للاستثمار في تعليمهم يتمثّل في حالة الباحثين بمساهماتهم العلمية (ولو كانت في الخارج) وأيضاً بالتحويلات المالية التي يرسلونها إلى أسرهم، أي أنهم في المحصّلة استطاعوا تثمين مقدراتهم العلمية. لذلك تبقى النساء الضحية الأكبر لهذه المنظومة خصوصاً عند حملة الدكتوراه، إذ يتمّ الاستثمار في تعليمهن وتطوير معارفهن إنّما من دون الحصول على العائد المنطقي المتوقّع من هذا الاستثمار، كون جزء كبير من هذه القدرات يتسرّب بعد انتهاء مرحلة التحصيل العلمي، وذلك مردّه بشكل رئيسي إلى ميل متّخذي القرار نحو تفضيل الرجال أثناء التقدّم لوظائف البحث العلمي، أو تحمّل النساء أعباء العمل المنزلي ورعاية الأسرة، أو نتيجة تحوّلهن نحو مجالات أخرى خارج البحوث العلمية، وهي مجالات غالباً ما تكون ذات قيمة مادية ومعنوية تقلّ عن إمكاناتهن وكفاءاتهن وطاقاتهن، وهو ما يرتّب خسائر على اقتصاد المعرفة والاقتصاد الكلّي».