لسنا غرباء عن مشاهد ما يطلق العالم عليها اسم «الموت». قد يظنّ من ينظر إلينا من الخارج أننا اعتدناه وبتنا نتعامل معه بوصفه جزءاً من يومياتنا. لكن الواقع أننا لا ننظر إلى الموت كأنّه النهاية، ولا نراه «حقيقة» مطلقة، رديفها الهوان والاستسلام، بل منه نستمدّ القوّة.
هذه القوّة التي رأيتها في ملامح كلّ من استشهدوا أمس. أبصرتها عندما حدّقت في عيونهم، ولمسني حنين مألوف يطرق باب قلبي. أشعر بأنني أعرفهم جميعاً، وأريد رغماً عنهم أن أحدّث الناس عنهم، عن قدرتهم، من خلال ابتساماتهم الطيبة، على رفض هذا «الموت».
من هم؟ أحدهم ابن الجيران الذي يفترش سطح منزله مساءً، طوال الصيف، أراه من شرفتي، يقلّب في هاتفه ويحضّر فحم الأركيلة. هناك صاحب الفرن، أسفل المنزل، يقول لي «أهلاً عمّو»، بابتسامةٍ لطيفة، وفرنه يعجّ بأبناء الحيّ الذين ينتظرون قبلي. الجارة في الطبقة الأولى، صاحبة دكانٍ صغير، تستوقفني بعبارة «مساء الخير» كلّما رأتني عائدةً من الكلية، حتّى لو لم أبادر إلى تحيتها. المرأة في الشقة المقابلة، كبيرةٌ في السنّ، لكنّها لا تنسى أبداً أن تطرق بابنا وتسألني إن كنت بحاجةٍ لمساعدةٍ ما.
الشارع أسفل بيتي لا ينام. البيوت قريبةٌ كثيراً بعضها من بعض، والناس على الشرفات المضاءة يسهرون معاً. الأحاديث التي لا تنتهي على أطراف الطريق، ضجيج الأولاد الذين يلعبون كرة القدم، أو يشرعون في اختراعٍ جديد بعد أن ينهوا دراستهم.
قبل أن أغادر هذا الحيّ في الضاحية، منذ عامين تقريباً، كانت صور الشهداء قد بدأت تملأ جوانبه. في الطريق من الجامعة إلى المنزل، كلّ يوم، أرى صورةَ شهيدٍ جديد. ابن جارتنا صاحبة الدكان واحدٌ منهم، وغيره كثر. ازدادت صور المقاومين الشهداء، لكنّ الحياة التي عهدتها في ذلك الحيّ لم تتوقف، ككلّ أحياء الضاحية. الموت لم يعرف طريقه إلى الشارع أسفل منزلي، الموت لن يعرف طريقه إلى حيّ «عين السكّة».
في مشهدِ التفجير أمس، كان يعلو الحيّ المدمّر صورة للشهيد محمّد عوّاد الذي استشهد وهو يقاتل الإرهاب في باب هود. عوّاد كان يحتضن الشهداء أمس، عيناه تراقبان بحزنٍ لا بدّ منه دماء أبناء شعبه تراق، لكنهما تحدّثانه بهدوء عن أنّ الموتَ فكرة، أمّا اليقين فهو ما نختاره نحن، وإننا في كلّ مرةٍ نختار الحياة.
من هم؟
هم أبواب البيوت التي لا تغلق، الأصوات التي لا تسكت، الأضواء التي لا تنطفئ، الدكاكين التي لا توصد أبوابها، الشرفات العامرة في السهرات، الشباب الذي لا يوفّر حياته دفاعاً عن شعبه، الأمهات اللواتي تربين، الأولاد الذاهبون إلى مدارسهم. هم كلّ الحياة وأكثر.