انتشرت آلاف المحاضر الديبلوماسية الأميركية السرية في الصحف والمجلات وشاشات التلفزيون والكمبيوتر حول العالم عام 2010 و2011، بعد أن تمكن موظفون أميركيون من تسريبها إلى وسائل الإعلام، وخصوصاً إلى موقع «ويكيليكس». وتتضمن هذه المحاضر معلومات عمّا دار خلال اجتماعات مسؤولين حكوميين لبنانيين بديبلوماسيين أميركيين. لكن بينما تسمح المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة والمحكمة الدولية الخاصة لسيراليون باستخدام مضمون المحاضر دليلاً، اعترض قضاة المحكمة الخاصة بلبنان على ذلك، في ما يدلّ على انحيازهم السياسي الواضح أو إلى رضوخهم لإملاءات سياسية، حيث إن تبريراتهم لحجب «ويكيليكس» بدت سطحية وساذجة. العدالة تتطلب شجاعة الشفافية والكشف عمّا جرى خلف الأبواب المغلقة، ويبدو أن المحكمة الخاصة بلبنان اعتمدت عكس ذلك تماماً.أثناء استجواب شاهد الادعاء في المحكمة الخاصة بلبنان (الرئيس الأسبق لمجلس الوزراء) فؤاد السنيورة، في ٢٦ آذار ٢٠١٥، عمد المحامي المكلف الدفاع عن حقوق السيد مصطفى أمين بدر الدين (الذي استشهد لاحقاً في سوريا)، أنطوان قرقماز إلى مواجهته بوثيقة صادرة بتاريخ ٤ تموز ٢٠٠٧، مرسلة من سفير الولايات المتحدة الأميركية في بيروت، ونُشرت على موقع «ويكيليكس» الإلكتروني. تناولت الوثيقة اجتماعاً عقد في اليوم السابق بين السفير الأميركي جفري فيلتمان ووزير العدل اللبناني شارل رزق، الذي كان عضواً في حكومة السنيورة. فجأةً، قاطعه المدعي العام معترضاً على استخدام الوثيقة وقبولها. وبدل أن يعلن القاضي رئيس الغرفة موقف المحكمة بشأن هذا الاعتراض، قرر تأجيل اتخاذ أي موقف بشأن قبول الوثيقة، وسمح للدفاع بتوجيه أسئلة مبنية على مضمون الوثيقة، من دون الإشارة المباشرة إليها. فتح ذلك باب التشكيك واسعاً في تصرفات القاضي واستقلالية قراراته. فمع إصرار الدفاع على إضافة الوثيقة المطروحة إلى ملف الدعوى كدليل للدفاع، استمرّ تشديد القاضي على وجوب تأجيل البتّ بهذا الموضوع.
أظهر الدفاع أن اعتراض الادعاء لا أساس له، في ما يخصّ كل من مسألتي صحة الوثيقة وعدم شرعية كشفها. وأظهر أنه استوفيَت معايير قبول الوثيقة كدليل في هذه القضية، خاصة معايير الصدقية والقيمة الثبوتية.
وتدخّل لاحقاً فريق الدفاع عن حقوق السيد حسين عنيسي، مقدماً ملاحظات كتابية في ما يتعلق بقبول البرقيات الدبلوماسية للولايات المتحدة، شارحاً الملاحظات الآتية:
إن البرقيات الدبلوماسية للولايات المتحدة، أو ما يُعرف بـ«ويكيليكس»، هي مستندات عامة ومفيدة، ويمكن الاستناد إليها، حيث إنها أصبحت جزءاً من المجال العام. وقد اعتُرف بقيمتها التاريخية على نطاق واسع في المجالات السياسية والأكاديمية، ولم تنفِ الولايات المتحدة ومعظم الدول مضمونها. هذه البرقيات موثوق بها، إذ يتضمن كل منها تاريخاً، وتعريفاً وتبويباً، وقراراً تنفيذياً ومصدراً ومرسلاً ومتلقياً. وما يعزز صدقيتها، أنّ صياغتها أتت بالتزامن مع الأحداث والاجتماعات والمحادثات التي تصفها. وقد قُبِلَت البرقيات في المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة والمحكمة الدولية الخاصة لسيراليون. وفي كلتا الحالتين، ناقش القضاء مضمون هذه البرقيات دون الحاجة إلى استجواب المؤلف الأصلي. وعلاوة على ذلك، قررت المحكمتان أن «الوثائق لا تلزم بأن يكون معترفاً بها من قبل أحد الشهود من أجل إثبات قيمتها الثبوتية».
وشرح المحامي الفرنسي فنسان كورسيل لابروس، أن لا فرق بين مادة هذه البرقيات (ويكيليكس) وغيرها من الوثائق التي قُبِلَت، مثل السجلات البرلمانية، ووثائق الأمم المتحدة، والنشرات الصحفية، والمقالات الصحفية، والصور، ووثائق السفر والسجلات والبيانات الإلكترونية، وسجلات الاتصالات التجارية والمقابلات وشهادات الوفاة والوثائق الطبية. في الواقع، قال لابروس إن طبيعة البيانات الصحفية والمقالات الصحفية مطابقة للبرقيات. وتُعَدّ برقيات ويكيليكس مصدراً مفيداً للمحكمة، بما أنه قد قُبِلَت أدلة ذات «خلفية سياسية». علماً أن الشهود قد اعترفوا بصحة ما ورد في البرقيات.
شرح المحامي الفرنسي للغرفة بإسهاب أن البرقيات تعطي صورة أوضح عن دوافع الجهات الفاعلة الرئيسية في المشهد السياسي اللبناني، وعن الاجتماعات والمفاوضات والمناقشات التي كانت تدور فيما بينهم بحضور ممثلي حكومة الولايات المتحدة. وفي نهاية المطاف، قد يؤكد الشهود أو ينفون مضمون البرقيات أثناء الاستجواب. ففي حال نفي أحد الشهود مضمون برقية، يجري التحقق من المؤلف الأصلي للبرقية.
على أيّ حال، لم يقدم الادعاء أي سبب وجيه لاستبعاد البرقيات الديبلوماسية الأميركية المسرّبة. ولا أساس سليماً لطلبه الاستبعاد الشامل للبرقيات، نظراً لتنوع مضمونها. وكان المدعي العام قد زعم أن طريقة الحصول على البرقيات تسمح باستبعادها. مع العلم، أن الولايات المتحدة لم توافق على نشر هذه البرقيات، فلا يرى الدفاع كيف يمكن أن يؤثر «عدم الموافقة» الأميركي الرسمي بصدقية البرقيات. ولا يمكن القول إن «قبولها مناقض لنزاهة الإجراءات، وسيُلحق بها ضرراً بالغاً» كما ادعى فريق الادعاء.
وإذا شككنا في عدم صحة «ويكيليكس» وعدم صدقيتها، ينبغي أن يصدر ذلك مباشرة على لسان ممثلين عن الولايات المتحدة، لا بواسطة المدعي العام لهذه المحكمة، فلا صلاحية له بهذا الشأن.
يذكر أن البرقيات الديبلوماسية الأميركية كانت قد نشرت بين عامي 2010 و2011 من قبل منظمة غير حكومية معروفة باسم «ويكيليكس»، وبلغ عددها 25,1287 وثيقة سرية وغير سرية أرسلتها إلى وزارة الخارجية الأميركية ٢٧٤ بعثة ديبلوماسية أميركية حول العالم. وكانت صحف عالمية قد تعاونت في عملية نشر هذه الوثائق، أهمها «نيويورك تايمز»، و«الغارديان» و«إل باييس» و«دير شبيغل» و«لو موند»، وتابعت «الأخبار» نشرها عربياً.

الحجج والحجج المضادة
يشير الادعاء إلى قرار المحكمة الفدرالية الأميركية لمقاطعة كولومبيا بتاريخ 23 تموز 2012 الذي خلص إلى أن وزارة الخارجية الأميركية لم تعترف بمصدر برقيات ويكيليكس. لكن بعد التدقيق في الأمر، تبين أن هذا القرار يخصّ إجراءً إدارياً للكشف عن 23 برقية رفعت ضد وزارة الخارجية بموجب قانون حرية المعلومات الذي لجأت وزارة الخارجية فيه إلى الإعفاء المنصوص عليه في القانون في ما يتعلق بالمعلومات الحساسة أو المعلومات التي تتعلق بالأمن القومي الأميركي.
إن هذا القرار الأميركي يناقش معايير خاصة بالتشريعات الإدارية الأميركية، لا معايير لقبول الأدلة أمام المحكمة الدولية. ومع ذلك، إن المحكمة الخاصة بلبنان ليست ملزمة بالتصنيفات الأميركية، وإن استخدام تلك الوثائق دليلاً أمام محكمة دولية لا علاقة له بكشفها الرسمي من قبل الولايات المتحدة. فلا يفترض أن تكون المحكمة الخاصة بلبنان ذراعاً للقضاء الأميركي، ولا الضامن للمصالح الأميركية، حيث لا يجوز أن يشكل التحيز المحتمل لدولة ما معياراً لقبول الأدلة.
وثائق «ويكيليكس» مقبولة في محكمتي يوغوسلافيا السابقة وسيراليون، لكنها ممنوعة عن المحكمة الخاصة باغتيال الحريري


يقول الدفاع إن واقع عدم وجود اعتراف رسمي من حكومة الولايات المتحدة في ما يتعلق ببرقيات ويكيليكس لا يمنع أن تكون البرقيات حقيقية. وعلاوة على ذلك، لم يدّعِ أحد أن هذه البرقيات ليست صحيحة. وهذه البرقيات تحمل دلائل كافية من الصدقية، ولا سيما أنها تتوافق مع قواعد الصياغة الخاصة بوزارة الخارجية، ولا يمكن الطعن جدياً في صحتها.
أعرب فريق الادعاء عن قلقه بشأن تأثير قبول الأدلة التي حُصل عليها نتيجة عمل إجرامي في نزاهة الإجراءات. وفي هذا الصدد، يقول الدفاع إنه بمجرد أن دخلت الوثائق المجال العام، فإن من يستخدمها لا يرتكب جرماً. ويضيف الدفاع أنه لم تجرِ مقاضاة صحيفة نيويورك تايمز في الولايات المتحدة لنشرها وتعليقها على وثائق «ويكيليكس». علاوة على ذلك، إن الدفاع ليس على علم بأي سابقة، حيث استُبعدَت هذه البرقيات كدليل في محكمة أجنبية أو دولية، على أساس أن الحصول عليها قد حصل خلافاً للقانون الأميركي.
ويشدد الدفاع على أن البرقية التي يسعى إلى الحصول على قبولها كدليل، هي ذات صلة وتتعلق بالمسائل التي وردت في شهادة فؤاد السنيورة التي يجدها الدفاع مفيدة لاختبار صدقية هذا الشاهد. وبالنسبة إلى الدفاع، فإن رئيس الوزراء السابق في وضع يمكنه التعليق على نص لقاء يشمل عضواً في حكومته بصفته الرسمية، ويعبّر عن وجهة نظره. ويذكر الدفاع أيضاً أن الادعاء لم يطعن في صلة محتوى هذه الوثيقة أو طريقة الدفاع في الاستجواب بما أنه لم يعترض على طرح الدفاع لهذه الأسئلة بشرط عدم إشارته إلى المستند.
وفي ٢١ أيار ٢٠١٥ قرر قضاة غرفة البداية في المحكمة الخاصة بلبنان التهرّب من مضمون وثائق «ويكيليكس» من خلال منع استخدامها كدليل، بحجة أنه «لا يوجد لدى غرفة الدرجة الأولى أي دليل على اعتراف الحكومة الأميركية بصحة الوثائق ودقتها». وأضاف القضاة أن شاهدي الادعاء «السيد السنيورة والسيد جنبلاط، على حد سواء، نفيا ما ورد في الوثائق». على هذا النحو، تتخذ المحكمة الخاصة بلبنان قراراتها الخاصة جداً التي تبدو خاصة بحماية مصالح الرئيس فؤاد السنيورة والزعيم وليد بك جنبلاط وفريقه السياسي، بدل أن تحرص على الشفافية اللازمة للعدالة. فلماذا تُحجب الوثائق الأميركية عن المحكمة لو كانت خالية مما قد ينسف مزاعم القرار الاتهامي والحكم المرتقب؟



نهج قضائي قمعي يمنع الاستئناف
في 3 تموز 2015 رفضت غرفة البداية في المحكمة الخاصة بلبنان السماح لفرق الدفاع بالاعتراض على قرارها حجب وثائق "ويكيليكس" أمام محكمة الاستئناف، علماً بأن نظام هذه المحكمة يفرض حصول أي طرف على ترخيص مسبق من القضاة ليتمكن من الاعتراض على قرار صادر عنهم. ويعد ذلك، بحسب معايير العدالة الصحيحة، هرطقة ونهجاً قمعياً لا يمكن أن يؤدي الى حكم عادل.
أنطوان قرقماز، محامي الدفاع عن حقوق ومصالح السيد مصطفى أمين بدر الدين، كان قد طلب من غرفة البداية في المحكمة الخاصة بلبنان الترخيص له لاستئناف قرار الغرفة نفسها بمنع الاستناد الى وثيقة من وثائق ويكيليكس (الصادر في 21 أيار 2015) حيث إن هذا القرار يستبعد فئة كاملة من الأدلة، أي جميع البرقيات التي نشرت على موقع "ويكيلكس" الإلكتروني التي قد تكون ذات صلة بالمحاكمة. وكانت المحكمة قد ادعت أن على الدفاع تقديم أدلة تظهر اعتراف حكومة الولايات المتحدة بصحة هذه البرقيات أو دقتها، علماً بأن الحكومة الأميركية "لا تؤكد ولا تنفي" مصدر هذه البرقيات.
يقول الدفاع إن الاستبعاد الخاطئ لفئة كاملة من الأدلة سيكون له ضرر أكبر من الضرر الناتج من القبول الخاطئ للأدلة. ويزعم أن القرار من شأنه أن يحرم الدفاع من فرصة لعرض الأدلة أمام المحكمة، وبالتالي فهو معرقل لمهمات الدفاع ووظيفته. ولا شك أن طلب الدفاع من الغرفة الترخيص له للاعتراض أمام محكمة الاستئناف مبني على أساس قانوني، حيث إن القاعدة 126 من قواعد الإجراءات والإثبات تنص على أن غرفة الدرجة الأولى يفترض أن ترخص لاستئناف قرارها إذا كان هذا القرار ينطوي على مسألة "من شأنها أن تؤثر تأثيراً كبيراً على سير الإجراءات النزيهة والعادلة".