وضع اغتيال الوزير محمد شطح والتفجير الذي وقع امس في حارة حريك، البلد على سكة جديدة مع بدء الاستعداد للاستحقاق الرئاسي، على غير ما يشتهيه اللبنانيون، لكنّ العملين الامنيين جاءا مطابقين تماماً للتحذيرات الامنية والسياسية من مغبّة ترك البلد من دون حماية داخلية، على الرغم من المظلة الدولية الموضوعة فوقه لحماية الاستقرار فيه. والهاجس الامني الذي يطغى حالياً على غيره من الاهتمامات، من شأنه ان يكون جسر عبور الى زاوية جديدة لخرق الجمود السياسي، وفتح ملف تأليف حكومة جديدة، تعيد جدولة الأولويات مع ارتفاع حدّة المخاطر المحدقة بلبنان.
حين كلف الرئيس تمام سلام مهمة التأليف، وبدأ الكلام عن احتمال تأليف حكومة غير سياسية، استغربت اوساط سياسية مطلعة هذا النوع من الحكومات في وقت يقبل فيه البلد على احتمالات فراغ رئاسي، ويواجه كمية من المشكلات الامنية والاستحقاقات الاقليمية والدولية. فكيف يمكن لحكومة غير سياسية ان تكون على مستوى الاحداث السياسية، وان تعالج قضايا أمنية على مثال اشتباكات طرابلس ووضع عرسال ومشكلة النازحين السوريين بوزراء تكنوقراط، فضلاً عن وجود حزب الله في سوريا، وما يتفرع من هذا الملف من اشكالات داخلية تتعلق بسلاح الحزب. ومع دخول البلد المنحى البغدادي في التفجيرات، التي تتنقل مداورة بين المناطق والاشتباك الاقليمي الدائر خلفها، عاد السؤال ذاته يرتسم مجددا، غداة الكلام الرئاسي عن امكان تأليف حكومة محايدة في وقت قريب. فأي حكومة حيادية يمكن ان تكون بمستوى المنحى الخطر الذي ينزلق اليه البلد، وأي وزراء من خارج 8 و14 آذار يمكن ان يمثلوا قاعدة اساسية لربط النزاع بين التشابكات المحلية والاقليمية على الارض اللبنانية. وهل يمكن لحكومة فيها الوزراء «الحياديون» الذين بدأت اسماؤهم تتسرب، ولو كانوا في خلفياتهم مقربين من هذا الفريق او ذاك، على مستوى هذا المنحى من الاحداث، ولبنان مقبل على ما يمكن ان يكون ادهى، ربطا بالمحكمة الدولية التي تبدأ أعمالها منتصف الشهر الجاري.

من طاولة الحوار إلى الحكومة

مع تشابك الاحداث في لبنان والمنطقة، من العراق الى مصر وفلسطين واسرائيل (حيث تنطلق المفاوضات مجدداً بين الطرفين برعاية اميركية) وسوريا، وانفلات الوضع في الساحات المذكورة، يذهب لبنان مجددا الى حكومة حيادية، فيما المطلوب، بحسب اوساط سياسية مراقبة، ان يذهب لبنان عكس التيار، الى حكومة فاعلة على وزن طاولة الحوار، قادرة على لجم الوضع الداخلي، بفعل وزن المشاركين فيها. وفي اعتقاد هذه الاوساط ان حكومة «طاولة الحوار» مع بعض «الدوزنة» فيها لتقليص عددها، يمكن ان تكون مفتاحا لتطبيع استقرار البلد، اذا ما دهمه الفراغ الرئاسي. وبهذا المعنى يصبح الجميع امام مسؤولياتهم التاريخية في تحييد لبنان عن المنحى الاقليمي الخطر، ويتجاوز جميع الافرقاء مسألة الثلث المعطل.
وتعيد هذه الاوساط التذكير بأن مبدأ الحكومات الفضفاضة (التي ترمي عادة الى توزع الحصص والوزارات) لا يتلاءم مع الوضع الدقيق الحالي، فيما سبق أن أُلفت حكومات كثيرة، بعد الاستقلال، وعند الازمات، ولم يتجاوز عددها اربعة وزراء او ستة او حتى ثمانية. والحكومة المصغرة يمكن ان تمثل مخرجاً اليوم، اذا ما اقتربت المواعيد الرئاسية من دون ان يلوح في الافق اتفاق اقليمي ودولي ومحلي على الرئيس الجديد، ومع تعاظم المخاطر الامنية.

سليمان يحجز حصة ويتريث

ولا يمكن اليوم فصل الامن عن مسار تأليف الحكومة، التي لم تغب المداولات حولها في عطلة الاعياد، بعدما تبلغ القادة السياسيون في قوى 8 و14 آذار عشية سفر رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان الى بودابست على نحو شبه رسمي ان سليمان مصر على تأليف حكومة جديدة في النصف الاول من الشهر الجاري.
ما تبلغه هؤلاء القادة أن سليمان لن يترك القصر الجمهوري من دون حكومة، وقد ردد هذا الكلام مرات عدة امام كل من التقاه قبل سفره، من قادة سياسيين وديبلوماسيين، لكن ابعد من هذه العبارة، لم يلمس المعنيون اي تفاصيل يمكن الاعتماد عليها، ما خلا جو «اندفاع» نحو التأليف، لم يسبق لسليمان ان عبّر عنه على هذا النحو، وما عدا تكرار اسماء مرشحين للتوزير ومنهم وزراء ونواب كممثلين بارزين لقوى 8 و14 آذار، لكن على نحو فردي لا على نحو موسع، كي يبقى الطابع الحيادي طاغياً على الحكومة.
واذا كانت قوى 8 آذار قد أبدت لكل من فاتحها بأمر التشكيلة الحكومية، رفضها التام لاي خطوة يقدم عليها سليمان بهذه الطريقة، فان قوى 14 آذار بدت ميالة الى عدم تصديق الخطوة الرئاسية ايضا. وبعض مصادرها شكك في ان يقدم سليمان على خطوة من هذا النوع في هذا الظرف، لاعتبارات معروفة، برغم ان هذه القوى تحثه منذ اشهر على اتخاذها.
في الساعات الاخيرة، تبلورت اجواء مغايرة للاندفاعة الرئاسية، بدأت تتحدث عن ان المواعيد التي اعطيت لاصدار مراسيم التشكيلة الحكومية غير دقيقة، لا بل ذهبت الاجواء لتؤكد ان رئيس الجمهورية خفف من اندفاعته، وانه لن يذهب الى التأليف على نحو سريع كما كان متوقعاً. وبرغم ان هذا الكلام سبق انفجار حارة حريك، فانه مرشح لان يصبح اكثر حضوراً بعده، وخصوصا بعد ما ذكرته مصادر مطلعة عن نصائح عدة اسديت الى سليمان بعدم الذهاب في مغامرة من هذا النوع، وفي مقدمها بكركي، التي ابلغت رفضها هذا النوع من الحكومات، لما يمكن ان تحدثه من انقسامات تزيد من خطورة الوضع الداخلي.
وتطابقت هذه الاجواء مع ما ذكرته مصادر في قوى 8 آذار، من ان النائب وليد جنبلاط كان احد الذين ابلغوا سليمان، على نحو صريح وواضح وحاد، رفض هذا النوع من الحكومات.
لا يعني هذا الكلام ان سليمان تراجع عن مبدأ تأليف حكومة جديدة، لا بل إن تريثه لا يلغي انه لا يزال مصرا على امرين: اولا لن يترك القصر الرئاسي والبلد في عهدة حكومة من لون واحد، وثانيا انه مصر على تأليفها قبل 25 آذار بأسابيع ليتسنى للمجلس النيابي مناقشة بيانها قبل ان يحين موعد تحول الهيئة العامة هيئة انتخابية.
وبين الاندفاعة والتريث، ثمة كلام عن حصص موزعة في الحكومة الجديدة، وسط اسئلة عن حق رئيس الجمهورية في تحديد حصة له في الحكومة التي يفترض ان تكون مهيأة لتعبئة الفراغ بعد رحيله، وهو بذلك يحجز مقعداً له بعد خروجه من الحكم، بضم مستشارين ومقربين منه الى الحكومة، فيما يبعد ممثلين للقوى السياسية الاساسية في البلد.
من هنا عاد التأليف الحكومي الى النقطة الصفر. فقوى 14 آذار تجزم بأن سليمان سيؤلف قريبا حكومة جديدة بتوافق اقليمي ودولي. أما قوى 8 آذار، فتصر على التأكيد ان لا حكومة حيادية ولا حكومة الا جامعة، وانه سبق لسليمان ان اعطى مواعيد مماثلة ولم يصدر المراسيم، وهي تتكتم عما ستفعله اذا لجأ سليمان في اي لحظة الى خطوة غير محسوبة.