من المعروف تاريخياً أن لبنان بلد يفتقر إلى الموارد الطبيعية من معادن ونفط (حتى الآن على الأقل)، ويعتمد في اقتصاده على عقول أبنائه وسواعدهم، كما تعلمنا في كتب الجغرافيا والتربية الوطنية. فالموارد البشرية الحية تعوّض، بحسب البعض، النقص في مواردنا الطبيعية، إلى درجة أصبحت مقولة أن «لبنان بلد منتج للعقول» شائعة، بدليل أن نسبة لا بأس بها من أبنائنا، بالقياس إلى عدد السكان، يحققون الإنجازات المتميزة على المستويات التكنولوجية والعلمية والطبية والفنية وغيرها، في بلاد المهجر طبعاً.
بعيداً عن توصيف الأمور على الطريقة اللبنانية، ماذا لو قاربنا الموضوع من ناحية أكاديمية وتربوية وبشيء من التبسيط، وحاولنا الإجابة عن سؤال: هل هناك رؤية واضحة أو آلية مدروسة مدمجة بالنظام التعليمي اللبناني الحالي تضع لبنان في قائمة الدول التي ترعى المتميزين وتنتج النخب وتستثمر قدراتهم الكامنة؟
للإجابة عن هذا السؤال، بطريقة علمية، لا بد من الدخول قليلاً إلى عالم التربية المختصة بالتلامذة المتميزين والموهوبين، من أجل أن نضع معياراً يحدد مستوى الجهود المبذولة في النظام التربوي الوطني لتنمية مواهب وقدرات هذه الفئة من التلامذة.
في الادبيات، هناك تداول لأربعة مفاهيم رئيسية كثيراً ما يتم الخلط في تفسيرها: الذكاء العام، الموهبة، التفوق والإبداع، وهي مفاهيم حاكمة على تربية التلامذة المتميزين. فالذكاء العام هو قدرة عقلية عامة تساعد الفرد على التفكير المنطقي والتكيف والتفاعل مع البيئة المحيطة، بينما الموهبة قدرة عقلية خاصة متقدمة في مجال محدد. أما التفوق فهو التمكن الفعلي من الإنتاج المتقدم في مجال محدد. في حين أنّ الإبداع هو القدرة على تقديم منتج أصيل وجديد ومتطابق مع السياق الاجتماعي التي يظهر فيه.
بخلاف الذكاء العام، الموهبة متنوعة المجالات، وكذلك التفوق، وهذه المجالات تتوزع على أربعة: المجال الأكاديمي العلمي والتقني الذي يغطي القدرات أو الانتاجات المتميزة في المواد الاكاديمية العلمية كالرياضيات والعلوم والبرمجة والهندسة... المجال الرياضي والجسمي الذي يغطي القدرات أو الانتاجات المتميزة في الألعاب الرياضية الفردية والجماعية والفنون القتالية والباليه والتعبير الجسدي... المجال الفني والجمالي الذي يغطي القدرات أو الإنتاجات في الفنون التشكيلية من رسم وتصوير ونحت والفنون الأدائية من إنشاد ومسرح وتمثيل وإخراج...، وأخيراً المجال الإداري والقيادي الذي يغطي القدرات الشخصية والإدارية والكاريزما أو الإنجازات القيادية والخطابة والتواصل مع الجماهير.
بعد تحديد المفاهيم الأساسية في تربية الموهوبين، لا بد من البحث عن الإجراءات التي يجب أن يلتزمها أي نظام تعليمي لاستثمار القدرات العقلية التي تمثلها هذه المفاهيم، والتي يمتلكها بعض التلامذة، ليستحق فعلاً لقب نظام تربوي راعٍ للمواهب ومنتج للعقول.
فبحسب الدراسات وتجارب الحكومات والمنظمات المتخصصة، تمر عملية استثمار التلامذة المتميزين في ثلاث مراحل رئيسية هي: الكشف، الرعاية، والتوجيه.
الكشف هي الأداة التي تستعمل لتحديد أصل وجود المواهب عند التلامذة، وتشخيص مداها الكمي والنوعي، وبالتالي اختيار مجموعات التلامذة الموهوبين في مختلف المجالات، وغالباً ما يتم كشف المواهب في عمر مبكر.
بعد تشخيص مواهب التلامذة، تأتي مرحلة الرعاية، وهي، بحسب الدراسات أيضاً، يمكن أن تأخذ أكثر من شكل، ضمن مدارس خاصة بالموهوبين بمنهج خاص بهم، أو على شكل إثراء موازٍ للعملية التعليمية. إذ يخضع التلامذة الموهوبون لبرامج إضافية خلال الدوام المدرسي أو خارجه، فيتم فيها تعميق خبراتهم ومعارفهم عامودياً وأفقياً في مجال الموهبة المحدد.
أما المرحلة الثالثة وهي على غاية من الأهمية لأنها تمثل مرحلة توجيه التلميذ إلى المسار الجامعي المتناسب مع قدراته وامكاناته الكامنة بما يتناسب مع حاجات المجتمع التي تشخصها الجهات الحكومية المعنية، بحيث يتم توجيه الطلاب إلى جامعات محددة وبعدها يعودون ليتم تسكينهم في الهيكل الوظيفي للمؤسسات العامة والخاصة، منعاً لتسربهم إلى الخارج، وفي المكان المناسب لهم والذي يمكنهم من الاستفادة القصوى من مواهبهم لتحويلها إلى منتجات متفوقة ومبدعة تنعكس تفوقاً على أداء المجتمع في تقدمه وإنتاجه للعلم والمعرفة.
لكن، بعد استعراض المنهجية التربوية العامة لمراحل تنمية الموهوبين وإعدادهم كأدمغة وكنخب، وبعد البحث بقليل من العناء في أروقة النظام التعليمي اللبناني نجد أن شيئاً مما ذكر أعلاه لا يحدث في مدارسنا، حتى الان على الأقل، ضمن رؤية وطنية شاملة تعنى باستثمار الموارد البشرية. بل على العكس، قد يسهم النظام الحالي أحياناً في قتل مواهب التلامذة، ما خلا القلة منهم التي تنجو من هذه المأساة، والتي نفتخر بها عند تميزها في الخارج! ولذلك نجد أن لبنان يفعل بالضبط في تنمية موارده البشرية تماماً، كما يفعل مع باقي الموارد الأخرى. فالليطاني يذهب ملوثاً إلى البحر هدراً، والنفط ما زال دفيناً تماما كقدرات الكثيرين من تلامذة المدارس في نظامنا التعليمي الحالي.
بالرغم من هذا الواقع الأليم، هناك بارقة أمل تتمثل في الفرصة التي يوفرها مشروع تطوير المناهج التعليمية الذي تعكف حاليا وزارة التربية على إنجازه من خلال المركز التربوي للبحوث والانماء، حيث نأمل أن يتم التخطيط لمشروع وطني جدي وواعد، لاستثمار القدرات الكامنة عند تلامذتنا، لأننا بذلك نكون أمام فرصة تنمية مواهب أبنائنا كما ونوعاً ومضاعفة أعداد شبابنا المتميزين والمبدعين، لنكون عندها بحق بلداً ينتج عقولاً موهوبة ومبدعة تجد مكانها المناسب في المؤسسات الوطنية ولا تضطر للهجرة إلى الخارج.
إلى ذلك الحين فإن كل موهوب ينجو من مقصلة النظام التعليمي الحالي يذهب إلى ما وراء البحر... تماماً كما يفعل نهر الليطاني كل يوم.
*باحث تربوي