بعد أيام قليلة تنتهي المهلة التي حددتها بلدية إهدن للعمال السوريين الموجودين ضمن نطاقها لمغادرة البلدة. هكذا، قررت البلدية، من خارج صلاحياتها، أن تطرد السوريين. تشير مصادر من البلدة الى ان هذا الإجراء سنوي، إذ يُطلب من العمال السوريين مغادرة البلدة شتاءً، حين يعود معظم أهالي اهدن الى زغرتا فتصبح البلدة شبه خالية، وعليه، وتجنباً للسرقات تطرد البلدية العمال!تتميّز بلدية إهدن عن غيرها من البلديات بانها رفعت سقف "الأمن غير الرسمي"، فذهبت الى طرد السوريين المقيمين في نطاقها عبر رفع لافتة رسمية، بينما البلديات الأخرى لا تزال تدور في نطاق لافتات منع التجوّل. عقب انفجارات القاع منذ أشهر، أعادت البلديات موجة حظر التجول إنما هذه المرة من باب "التضامن مع أهالي القاع"، فبات قرار حظر التجول نوعا من أشكال التضامن!
تعيد لافتة إهدن فتح النقاش الجدي عن الأمن "غير الرسمي"، الذي ظهر تحديداً عقب تدفق اللاجئين الى لبنان، والمنتشر في جميع البلدات، والذي تتصدر مشاهده البلديات (برغم كونها جهات رسمية إلا أن قرارات حظر التجول التي تتخذها ليست ضمن صلاحياتها) والأحزاب السياسية بحجة الحفاظ على النظام الإجتماعي من "المخاطر" التي يحملها اللاجئون السوريون.
الإجراءات المتخذة من حظر تجول ودوريات دائمة ومداهمات لأماكن سكن اللاجئين، والأشخاص والجهات الفاعلة في اتخاذ هذه القرارات، لا يمكن التعامل معها بسذاجة، إذ إنها تحمل أبعادا سياسية، نفسية وإجتماعية عميقة يجب تحليلها والتعامل معها بجدية، وإلّا فستودي الإجراءات الوقائية لـ "منع الإنفجار" الى الإنفجار.
يتعمّق تقرير صدر أخيراً عن مركز دعم لبنان بعنوان "أزمة ومراقبة: الأمن غير الرسمي في لبنان"، في البحث بالأمن غير الرسمي ومعانيه. يحلّل التقرير كيف يطبّق "مزوّدو الأمن الرسميون وغير الرسميين جداول أعمالهم للنظام الإجتماعي، كل حسب اختصاصه، من خلال «تجمُّعٍ » أمني"، ويُظهر كيف ان "مؤسسات الدولة الأمنيّة تقبل ضمنيا - أو حتّى تعتمد على - الجهات الأمنية الفاعلة غير الرسميّة، مُتمكنة أحيانا من تحقيق أهدافها السياسية والاستراتيجية من خلال أشكال غير شرعية من المراقبة". فالأمن الرسمي اليوم، يطبَق جزئياً من خلال جهات غير رسمية ما يوفّر أرضية من المصالح المشتركة في حفظ "النظام الاجتماعي".
الهلع المعنوي الذي غالباً ما يحرّض عليه الملتزمون سياسياً، وفق خلاصات التقرير، "يُساهم في بناء انعدام الأمن الجماعيّ. وانعدام الأمن الجماعيّ هذا يؤسِّس لِتصوُّر مُشترَك للخطر بين اللبنانييّن والسوريّين". لذلك، أخذ التقرير 3 بلدات كعينات هي عاليه، شبعا وعبرين، يمكن من خلالها فهم آليات الحفاظ على الأمن المتبعة ودوافعها الحقيقية.
"التجمعات" الأمنية: اختلاف سياقات فرض الأمن
تتألف أنظمة توفير الأمن في لبنان من عدة جهات رسمية وغير رسمية، فتبرز قوى الأمن الداخلي، الجيش، شرطة البلدية والأحزاب السياسية. ومسألة ضبط الأمن عالمياً لم تعد محصورة بالدولة المركزية، وفق التقرير، ما يخلق "تجمعا" "مهمته المراقبة الإجتماعية وحل النزاعات وتعزيز السلام عبر التحسب للتهديدات التي تنشأ عن حياة المجتمع المحلي"، لكن في لبنان، يتّضح من التقرير، ان هذا التجمُّع الخليط للأمن يُعيق السكان المحليّين بطُرق مختلفة، كما يُعيق مجتمعات اللاجئين والمُهاجِرين من الوصول إلى مُزوِّدي أمنٍ رسميّين ومؤسّسات الدّولة لِتسوية المسائل الأمنية اليومية".
لا اللبنانيون ولا السوريون أشاروا الى قلة الأمان المحلي كسبب لتعاميم حظر التجول

يُفهَم الأمن ويُطبق محليا في سياقات مختلفة. فالأمن قد يُطَبق "كمكانة إجتماعيّة، أو كمُعزِّز للهويّة المجتمعيّة، أو كإجراء ضروري لِمعالجة المخاطر الفعليّة، أو في حالات أخرى، كسبيلٍ لِمواجهة القلق الإجتماعي أو المُضايقة المُزمِنة". انعدام الثقة النموذجي في لبنان تجاه اللاجئين وإدراك "الضيافة عن غير ارادة" التي يُمارسها اللبنانيّون، يُخفيان خلفهما التصوُّرات المختلفة لانعدام الأمن والعلاقة المعقّدة مع الخطر الفعليّ. من هذا المنطلق يثير التقرير نقاطا تعكس على نحو واضح الغايات الإجتماعية - السياسية للإجراءات الأمنية المحلية، وتحديداً حظر التجوّل.
فعلى خلاف شبعا، لا تعاني عاليه وعبرين على نحو خاص حرمانا من الخدمات أو معدلات بطالة أعلى من مناطق أخرى، لكن مع ذلك فرضت البلدات الثلاث إجراءات أمنية ضد اللاجئين. يقول المقيمون إنّ هذه الإجراءات لم تُتخذ بسبب العدد الكبير للاجئين السوريين فقط، مقارنة مثلاً باللاجئين العراقيين والسودانيين الذين لم تُتخذ أي اجراءات ضدهم في هذا السياق. إنما تمثّل خصوصية العلاقة المتناقضة مع سوريا دافعا أساسيا لهذه الإجراءات.
في عاليه مثلاً، يتذكر السكان دائما تعاميم حظر التجول التي فرضها الجيش السوري ايام الوصاية، ويستعيدونها لتبرير الإجراءات المتخذة. في الواقع، على رغم عدم وجود أي قضايا أمنية مرتبطة على نحو دامغ بالسوريين الذين يعيشون في عاليه إلا ان بعض الشرائح تتمسك بالشك والريبة تجاههم. في عبرين يوصم جميع اللاجئين بانهم مع نظام البعث، ويبرز أيضا الربط بين الإجراءات الأمنية وحواجز الجيش السوري. اما شبعا، فعلى الرغم من العلاقات التاريخية بين السوريين والسكان بحكم الجغرافيا وعلاقات التبادل مع بيت جن تحديداً، وعدم حصول مشاكل تذكر، فرضت أيضاً حظر تجوّل.
اللافت، وفق التقرير، أنه لا اللبنانيين ولا السوريين أشاروا الى قلة الأمان المحلي كسبب لتعاميم حظر التجول. ففي عبرين مثلاً حصلت حادثة سرقة واحدة منذ وصول اللاجئين اليها وتبيّن لاحقاً ان مرتكبها لبناني. يقول أحد السكان انه "قبل حظر التجول، لم يتم التبليغ عن أي خلافات أو مشاكل إجتماعية. ولم تُطلَق التوترات جزئيا إلّا بعد اتخاذ إجراءات الوقاية هذه". ويؤكد أحد أعضاء حزب سياسي في عبرين ان "اللاجئين لم يتسبّبوا بأيّ مشاكل أمنيّة ذات صلة".
إذاً، ما الذي يدفع فعلياً المجتمعات المحلية الى اتخاذ إجراءات كهذه تبدو في ظاهرها أمنية إنما في أبعادها الإجتماعية لا تحركها قلّة الأمان؟
يستنتج التقرير خلاصة مهمة: "إن فرض الأمن من خلال فرض حظر التجول وسيلة يؤكد بواسطتها السكان المحليون ملكيتهم للأرض ومكانتهم الإجتماعية، إذ يمدهما الإثنان بشعور معزّز بالتمكين". لذلك تتخذ تعاميم حظر التجول قيمة رمزية، إذ إنها تطبّق سواء كان اللاجئون لا يغادرون بيتهم ليلاً في العادة، أو كان التبليغ عن جرائم صغيرة غير موجود. وعلى ارض الواقع لا تأخذ أهمية جدية، أو لا تدوم، إذ إنّ اللاجئين والسكان لا يعلمون فعليا إذا ما كانت هذه القرارات نافذة حتى اليوم، وإذا ما كانت تُطبق. يخلص التقرير الى ان تعاميم حظر التجول هي عمليا اجراء امني ضمني مقبول بين الجميع، ومعترف به معنويا في المجال العام للقرية. وتُذكَر تعاميم حظر التجوُّل وإرسال الدوريّات إلى الشّوارع على أنّها واحدة من الطرق التي تجعل المرء يُحافظ على هويّته الخاصّة، ويُطالب بالأرض على أنّها له، ويُدقِّق بالناس الذين يُحتمَل أنّ المعلومات حولهم لا تسجل على أساسٍ منتظمٍ. لذلك، يُعَرَّف الأمن أيضا على أنّه طريقة لحِفْظ هويّة مجتمعيّة معيّنة. فتوفير الأمن القائم على المجتمع مدعوم بفكرة أنّ بالإمكان بناء "رصيد إجتماعي رابِط".




الدولة والآليات غير الرسمية: تكامل وثيق

يحلّل التقرير الإجراءات المتبعة ومنفذيها، مؤكدا على الطبيعة الخليطة لتنفيذ تعليمات حظر التجول. فهذه التعليمات تصدر عن مزودي أمن رسميين مختلفين (يرتبطون بالدولة مثل البلديات)، وغير رسميين مختلفين (يطبقون اجراءات بصورة غير شرعية مثل قرارات حظر التجول الصادرة عن البلديات)، وبالتالي يتحركون على اسس قانونية غير واضحة المعالم.
يتبين من خلال الرصد الميداني ان "مضاعفة الجهات الفاعلة وقوى الأمن، بالإضافة الى ادوارهما غير الواضحة المعالم، أدّت الى إعادة عسكرة المجتمع بصورة عشوائية. ويظهر هذا جليّا في مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة التي عادت وانبثقت (مثل الزعماء المحليين أو الأعيان، رجال الميليشيات السابقة أو قادة الأحزاب السياسية)، والجِهات الفاعلة الجديدة (مثل شركات الأمن الخاصّة)، وممارسات التّرهيب الفرديّة والجماعيّة المُتعدِّدة الأوجه". لكن هذا الأمن الخليط، لا يشير الى دولة ضعيفة كما يُصوّر عادة، ولا الى توزيع العمل بين الجهات الامنية الحكومية الرسمية الفاعلة والجهات المحلية غير الرسمية الفاعلة، بل الى تفاعل معقد ما بين الجهات الامنية الحكومية الرسمية الفاعلة ومزوّدي الامن غير الرسميين الذين يكمّل أحدهم الآخر. فقد استغلت السلطة ممثلة بالأحزاب فيها، أزمة اللجوء السوري لترهيب الناس. هكذا عمم مزودو الأمن غير الرسميين (الأحزاب) حالة من الذعر العام وإجراءات أمنية تحسبا للعنف، بحيث باتت "الخطابات الرسمية حول الأمن، وإظهار اللاجئين السوريين على أنهم تهديد، تعزز التجزئةَ الاجتماعيةَ وتقوّض الجهود المبذولة لتقوية الإستقرار الاجتماعي على المدى الطويل. وهكذا يمثّل حظر التجوّل جزءاً من استجابة وقائية أشمل للتهديد المتصوَّر".