strong>جوزف سماحة
أواخر عام 2002 شهدت العواصم الغربيّة تظاهرات عارمة ضدّ الحرب الأميركيّة ــ البريطانيّة على العراق، فيما أقفلت المدن العربيّة بوجه أي تحرّك شعبي يذكر. يومذاك طلبت جريدة الـ«غارديان» البريطانيّة من جوزف سماحة، أن يكتب فوق صفحاتها عن هذه المفارقة. المقال الذي لم ينشر لأسباب تقنيّة بحتة، حصلت «الأخبار» على ترجمته الإنكليزيّة، وحاولت أن تعيده إلى لغته الأم. وما أشبه اليوم بالبارحة..

توقّع بعضهم أن يثور «الشارع العربي» ردّاً على التهديدات البريطانية الأميركيّة بشنّ حرب على العراق. لقد حدث ذلك فعلاً، لكن في أوروبا.
كان لافتاً كيف تظاهر الملايين في لندن وبرلين وباريس ومارسيليا وروما ومدريد ولشبونة، فيما ساد صمت مريب في القاهرة وصنعاء والخرطوم والجزائر وعمان وتونس والدار البيضاء. وفي حين شهد بعض الهيئات الدولية والغربية (مجلس الأمن، الاتحاد الأوروبي ومنظمة حلف شمال الأطلسي) نقاشات صاخبة بحثاً عن أرضية تفاهم، عقد وزراء الخارجية العرب أحد أغرب اجتماعاتهم على الإطلاق، ولا يزال الغموض يلفّ موعد القمّة العربية وصفتها (قمة عادية أم طارئة؟).
تَشكّل المتظاهرون في أوروبا من مجموعات وأنسجة مختلفة. بعضهم كان يتظاهر لأسباب أخلاقية، فيما رأى بعضهم الآخر أنّ المخاطر التي قد تنتج عن الحرب ستكون أكثر جدية من المخاطر الحالية. آخرون كانوا يعبّرون عن مخاوفهم من أن يتجذّر الإرهاب وينتشر، وأعلنوا معارضتهم استخدام القوة قبل أن تُستنفد كل الوسائل السياسية والدبلوماسية. وخيّم على المشهد خوف الانزلاق إلى صراع الحضارات، لا سيّما على خلفية خطر انتقال هذا الصراع إلى مدن تضمّ الآن مجتمعات عربية وإسلامية كبيرة، فيها قلّة تؤيد مواقف بن لادن.
أخذ بعض المتظاهرين يعترضون على سياسة الإدارة الأميركيّة الحالية، فيما كان آخرون معارضين كلياً للسياسة الأميركية من حيث المبدأ. وقد اعتبر غيرهم واشنطن المتّهمة الأساسية في الدفع باتجاه عولمة ليبرالية ستلحق الأذى بكثيرين والضرر بالبيئة.
نزل البعض إلى الشارع للدفاع عن صورة عالم يفضّل الحوار والتعددية. ونزل كثيرون للاحتجاج على موقف اختارته لدولهم الولاياتُ المتحدة في عالم يبدو أكثر ميلاً إلى فرض الأمور بالقوة بدل الحوار.
وحملت التظاهرات بعداً سياسياً. في فرنسا مثلاً، كان هذا البعد مسؤولاً عن إحياء الائتلاف الذي أوصل جاك شيراك إلى السلطة، رغم أنّه ائتلاف غير طبيعي. وفي إيطاليا، هدّد موقع سيلفيو برلوسكوني، وفي بريطانيا سلب طوني بلير شعبيته السابقة. في ألمانيا، لعبت معارضة الحرب دوراً محدوداً في تمكين غيرهارد شرودر من الفوز في الانتخابات العامة.
بيد أنّ الكلام على البُعد السياسي لا يعني أنّ السياسات صودرت تماماً باسم المسألة العراقية. وبالتالي، يميّز اليسار الفرنسي نفسه عن شيراك عبر إصراره على استخدام حق النقض في مجلس الأمن، وتنبعث المعارضة في إيطاليا من فشلها المدوّي في الانتخابات من دون أن تتمكّن حتى الآن من استعادة زمام المبادرة. وفي هذه الأثناء، إذا كانت شعبية بلير تتراجع، فلا يبدو أنّ أحداً يستغل هذا الأمر حق الاستغلال. أما بالنسبة إلى شرودر، فقد خسر حزبه الانتخابات الفرعية، وتشهد شعبيته اليوم أدنى مستوياتها.
كان متظاهرو أوروبا يحتجون على حرب ستشنها الولايات المتحدة وبعض حكوماتها على آخرين، وهو وضع يشكّل فيه التظاهر أهمّ سبل الاحتجاج. ولكن ماذا عن هؤلاء «الآخرين»؟
إذا ظنّ العرب أنّه عليهم ستُشن الحرب ـــــ وهم محقون في ظنّهم هذا ـــــ عندئذ لا تعود التظاهرات أهم سبل الاحتجاج. فيصعب على المرء التظاهر ضد حرب ستسقط على رأسه بالمعنى الحرفي للكلمة. بدلاً من ذلك، يجب أن يستعدّ لها، للمقاومة والمواجهة. من منظور الوضع العربي الملائم، سيكون التظاهر من أجل السلام خاوي المعنى ما لم يفسح المجال أمام حرب دفاعية.
في هذه المرحلة، قد تحمل التظاهرات في العالم العربي مضموناً سياسياً يتجاوز بأشواط «البُعد» السياسي الصرف الذي تتمتع به التظاهرات الأوروبية. فبكل بساطة، تضع تظاهرات مماثلة الحكومات العربية أمام مأزق خطير: إما أن تكون قادرة على القيام بواجباتها وتوقف الحرب، أو يتحتم عليها التنحّي. وليست مجتمعاتنا جاهزة بعد لإجبارها على مواجهة هذا المأزق، وهو، في نهاية المطاف، مأزق سلطة.
هكذا، لم يكن مستغرباً أن يجد المرء التحركات الشعبية محصورة في تلك الدول التي تستطيع تجنّب مواجهة هذا المأزق، لا سيّما بغداد ودمشق وبيروت. فالسلطات السياسية فيها هي الأشد معارضة للحرب، وتكاد تكون التظاهرات فيها، بمعنى معيّن، تعبيراً عن الدعم لتلك السلطات. ويُرجّح أن تُجرى تظاهرات أيضاً في دول أخرى، حيث تتيح ذلك درجةٌ معينة من التعددية (المغرب)، أو حيث ترغب السلطات في بعث رسائل غير مباشرة (اليمن).
لا نجازف إن قلنا إنّ المزاج الشعبي العربي يعارض هذه الحرب. هذه المعارضة تمثل جزءاً من معاداته مجمل السياسة الأميركية في المنطقة، من دعم الأخيرة للأنظمة الحالية (لم يكن الموقف العربي الرسمي يوماً مؤيداً للأميركيين مثلما هو عليه اليوم)، إلى دعمها إسرائيل في نسختها الليكودية، إلى الاتهامات الموجهة للولايات المتحدة بأنّ عينها على ثروات المنطقة وعلى نفطها. ولكن لا إعجاب كبيراً بصدام حسين ولا بالنظام العراقي؛ في الواقع، يشكّل الموقف تجاه صدام والنظام عاملاً يُضعف أيّ تعبئة عربية ضد الحرب، كذلك هناك عامل آخر يضعف التعبئة ويتعلّق بالعراق نفسه: على الرغم من أهميته الاستراتيجية الهائلة، ظلّ هذا البلد على هامش الضمير العربي، ولم يشغل يوماً الموقع العاطفي الذي احتلّته مصر على سبيل المثال.
من اللافت أنّ الحكومات العربية، من دون استثناء، تلاقت مع مخاوف الشارع العربي. فكل هذه الحكومات تتفق على بعض الوقائع، بينها أنّ نتائج الحرب ستكون كارثية، وأنّ المسألة خارجة عن سيطرتها. في الحقيقة، يقولون إنّهم يرون الكارثة تلوح في الأفق لكنهم عاجزون عن منعها، إما فردياً أو جماعياً ضمن نطاق الجامعة العربية. في الواقع، هناك سلطات عربية تبدو غير مبالية بأنّها مسلوبة الحرية أمام واشنطن، تاركةً «للمثقفين» من مؤيديها أن يجدوا السلوان في أمل الحصول على الديموقراطية الموعودة وفكرة أنّ صدام هو المسؤول عن كل ما يحدث.
لم تتبنّ الحكومات العربية المطالب الأساسية التي فرضتها الولايات المتحدة على هذه الحكومات، أبرزها إعلانها أنّها ستشارك في الحرب وستدعو إلى تنحّي صدام عن الحكم. إلا أنّ هذه الحكومات لم تلبّ أمنيات شعوبها أيضاً كالقيام بعمل ملموس لإيقاف الحرب أو لمقاومتها. بكل بساطة، تخلت عن مسؤولياتها، وعن أهمّ مهمات الدولة والمقوّمات التي تجعلها دولةً. وبعدما أصابها الشلل، تتمنى أن تتكشف تطوّرات الحرب وتنتهي بسرعة. في هذه الأثناء، ستقتل الوقت الإضافي في محاولة تضليل شعوبها بوهم أنّ الولايات المتحدة سوف تكرّس نفسها ـــــ بعد العراق ـــــ لإرغام إسرائيل وشارون على القبول بتسوية تؤدي إلى قيام دولة فلسطينية!
إنّ العالم العربي ـــــ على المستويين الرسمي والشعبي ـــــ يواجه العاصفة الوشيكة الهبوب من دون خطة للتعامل معها، ومن دون أدنى فكرة عمّا ينبغي القيام به بعدها (بشكل مختلف تماماً عن رد فعل قوّتين إقليميّتين: تركيا وإيران). وتعزز وسائل الإعلام الأميركية حالة الإرباك من خلال التلويح تلويحاً متزايداً بالوعد بالديموقراطية، وعد يبتز الأنظمة، وفي الوقت عينه، يغري قسماً من النخبة عبر التلميح لها بأنّها لن تخسر شيئاً إذا ما انفجر الوضع الراهن.
بكلمات أخرى، يعاني العالم العربي من نوع من الشلل (يعود تاريخه إلى سنوات طويلة، وليست ظاهرة بن لادن إلا تعويضاً كارثياً عنه). وهو يعاني منه في لحظة تاريخية حرجة، إذ إنّه تحوّل إلى «مسرح عمليات» تقوم فيه الولايات المتحدة ـــــ عبر التأثير في العالم العربي وإعادة تشكيله ـــــ بإعادة تحديد موقعها بالنسبة إلى العالم أجمع، ولا سيّما بالنسبة إلى تلك القوى المرشحة للعب دور مستقبلي مهم: أوروبا وروسيا والصين واليابان.
لا يمكن أن تقوم إعادة تحديد الموقع هذه إلاّ على حساب العالم العربي. لأنّ الضربة التي ستنزل ببغداد ستُحدث موجات ترددية تجعل الشرق العربي والخليج يواجهان تهديد قوى نابذة تحررت من كل قيد (بالإضافة إلى خطر زيادة تطرف الحركة الجهادية المتشددة). ففيما حكوماتنا العربية أضعف من أن تحاول جدياً إيقاف الحرب، مجتمعاتنا العربية ممزّقة جداً لتتحمل نتائج هذه الحرب. ولهذا، ليس مستبعداً أن تتحرّر قوى طائفية ومذهبية وعرقية، قوى متناحرة وغير قادرة على إيجاد مبدأ ينظِّم علاقاتها ضمن إطار الدول القومية القائمة حالياً. وغنيّ عن القول إنّ إسرائيل ستحاول استغلال هذا الوضع للدفع قدماً بمحاولتها فرض حل ليكودي على القضية الفلسطينية، ما سيقود، بدوره، إلى المزيد من الفوضى.
لا مكان لنظرية «بقعة الزيت» في منطقتنا، والديموقراطية في «العراق أوّلاً» لن تمتدّ إلى سائر المنطقة. ففي بيئة جافة كلّ الجفاف، وحدها النيران قادرة على الانتشار والتمدّد. لكن عندها، سيكون همّ الولايات المتحدة الوحيد استنفاد تلك النقاط البؤرية التي تجدها مفيدة، من خلال طلب المزيد من الطاعة من الحكومات «المركزية».
نحن العرب قد لا نكون قادرين على إيقاف تلك النيران. والسؤال عمّا إذا كان متظاهرو أوروبا سيقدرون على القيام بذلك.