تراجع فجأة عدد المتابعين على صفحة جوردان يانغر، الفتاة التي تتبع حمية نباتية، والتي كانت قد جمعت على «إنستغرام» عدداً كبيراً من الأشخاص المعجبين بنمط غذائها. أمّا السبب، فهو إعلانها المفاجئ التخلي عن نمط الغذاء النباتي. وما لا يعرفه المتابعون هو أنّ الفتاة الشابة كانت تعاني من اضطرابات حادة في الغذاء، عمدت طوال سنوات لإخفائها خلف واجهة الأكل الصحي عبر صفحتها على «إنستغرام».
ولا تزال الدراسات تظهر أكثر فأكثر مدى تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الصورة التي نكوّنها عن ذواتنا وعن أجسادنا. وأصبح الرابط بين ازدياد نسبة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وشهرتها، لا سيما في أوساط الشباب، وظهور بعض الاضطرابات لديهم أكثر وضوحاً من أي وقتٍ مضى. ومن أكثر هذه الاضطرابات شيوعاً بين الناس هي اضطرابات الأكل التي تودي بحياة الكثير من المراهقين، ولا سيما الإناث منهم، وتدفع بهم في كثير من الأحيان إلى الانتحار.

فكيف يزداد تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على هذه الاضطرابات وكيف يمكن تجنّبها خاصة بين المراهقين والأطفال؟
يقدّر عدد الذين يعانون حالياً من اضطرابات الأكل بنحو 9% من سكان العالم. بمعنى آخر، يبلغ عدد هؤلاء الأشخاص حالياً في الولايات المتحدة نحو 30 مليون شخص وتقدّر الوفيات الناتجة عنها بنحو 10 آلاف و200 شخص. فربما لا يعلم كثيرون أن هذه الاضطرابات تصنّف من بين أكثر الأمراض النفسية المسببة للوفاة لا سيما في أوساط المراهقات بين أعمار الـ18 و20. فهي مسؤولة عن هذه الوفيات أكثر بـ12 مرة من أي عامل أو مرض آخر.

وتزيد من احتمال الانتحار لدى المراهقين 30 مرّة، إذ يقدم 26% من المصابين على الانتحار. ومن مظاهر هذه الاضطرابات مثلاً، مرض يُعرف بـ«فقدان الشهية العصابي» يعدّ الأكثر فتكاً من بين الأمراض النفسية الأخرى، إذ يموت بين 5% و20% من الأشخاص الذين يصابون به. وهو يتميّز طبعاً بالامتناع عن تناول الطعام بشكل خطير للوصول إلى «الجسد المثالي». وواحد من بين 5 أشخاص مصابين بهذا المرض يموت انتحاراً. وهو يصيب النساء بشكل أكبر بكثير إذ تصل نسبة الذكور الذين يصابون به إلى 10% فقط من مجمل الإصابات.

ومع تفشي وباء «كورونا»، تزداد نسبة اضطرابات الأكل في حين يعاني المرضى من صعوبة في الوصول إلى العلاج. ودفع هذا بالخبراء إلى التوقع بأن معدل الانتحار لديهم قد يزداد 23 مرة.

وإلى جانب الانعكاسات الاجتماعية والصحية، لدى هذه الاضطرابات تأثير مهم على الحياة الاقتصادية لكلّ من المرضى ومؤسسات العمل. فأظهر تقرير حديث أنّ اضطرابات الأكل بمختلف أشكالها كبّدت الاقتصاد الأميركي نحو 65 مليار دولار خلال السنة الأخيرة. و75% من هذا المبلغ، أي ما يعادل 48.6 مليار دولار، سببه فقدان الإنتاجية الذي يعاني منه الناس في معظم مراحل مرضهم. أضف إلى ذلك مليارات الدولارات التي تُنفق في المستشفيات وغرف الطوارئ.

كيف يزداد تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على هذه الاضطرابات؟

أصبح اقتناء الهاتف والحاسوب والوصول إلى صفحات مواقع التواصل الاجتماعي أسهل وأكثر انتشاراً من أي وقت مضى، خاصة في أوساط المراهقين. ولمّا كانت هذه الوسائل تساهم في ترويج صورة الحياة المثالية والأجساد المثالية اللاواقعية في معظم الأحيان، فهي باتت منذ زمن ترتبط بمثل هذه المشاكل النفسية. أمّا اليوم، فقد باتت تشكّل غطاءً لهذه الأمراض وأرضاً خصبة لها أكثر من أي وقت مضى.

فمنذ الخمسينيات، تزداد صورة «المرأة المثالية» نحافة وبياضاً ونعومة، ولا تزال ملايين الدولارات تُنفق للترويج لهذه الصورة ولمستحضرات التجميل التي تؤدي إليها. كما كشفت دراسات عدة أجريت على فتيات قبل امتلاكهنّ التلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي وبعدها، ليتضح أنّ الميل صوب اتباع الحميات الغذائية واضطرابات الأكل والقلق المفرط من زيادة الوزن لم تظهر إلا بعد تعرفهنّ على الصورة المثالية التي يروّج لها الغربُ للمرأة.

أمّا اليوم، فاتخذت القصة شكلاً آخر. فانتشر عدد كبير من الصفحات التي تشجّع على الأكل «الصحي» والعضوي ونمط الحياة «الصحي» الذي يقضي باستهلاك أنواع معيّنة من الأطعمة ومستحضرات خاصة للحفاظ على صحة مناسبة، ليتضح في معظم الأحيان أنّ لهذه «الموضة» نتائج معاكسة تماماً حتى على من يروّج لها.

وتحدّثت بعض الفتيات اللواتي عانين من هذه الاضطرابات عن مدى التضليل الذي تسبّبه الأوسمة التي تنتشر على معظم وسائل التواصل وخاصة «إنستغرام»، مثل: #الفتاة_الرشيقة، #الأكل_النظيف، وغيرها... فهي غالباً ما تدفع الفتيات إلى تطبيق نصائح التغذية بتطرّف ما يسبب لهن مشاكل صحية خطرة. كما أبلغت العديدات منهنّ أنّ فترة إصاباتهنّ بهذه الأمراض وفقدانهنّ للوزن بشكل مخيف تزامنت مع زيادة إدمانهنّ على مواقع التواصل الاجتماعي. وحتى حين تكون الشابات في أصعب مراحلهنّ وعلى حافة المعاناة من سوء التغذية الحاد، فإن «إنستغرام» والصور المنتشرة عليه لا يجعلان الأمر يبدو كذلك أبداً.

كما تنتشر اليوم النصائح الغريبة التي تعلّم الناشطين على مواقع التواصل كيف يعطون الصورة المثالية عن أنفسهم. فتنشر مثلاً صحف مشهورة مقالات بعنوان «12 خدعة تمكّنك من التقاط أفضل صور للطعام، أو لوجهك، أو لجسدك، على إنستغرام». فتطالبك وسائل التواصل بالتالي ببيع أفضل صورة عن نفسك، لتصبح بمثابة منتج تكشف عن أفضل أجزاء في شكلك وحياتك، مروجة لصورة بعيدة من الواقع المادي غالباً ما تؤدي إلى الإحباط.

ولم تعد المقارنة لدى الشابات محصورة بالفنانات وعارضات الأزياء والمشاهير فحسب. ففي ظلّ الشهرة السريعة التي يشهدها عدد كبير من الشباب بسبب وسائل التواصل أصبح الجميع يقارن نفسه بالجميع تقريباً، ما يؤدي في معظم الأحيان إلى فقدان الثقة بالذات.

محاولات لحفظ ماء الوجه

يدعو الخبراء النفسيون لزيادة «التثقيف» حول وسائل التواصل بين الشباب، أي جعلهم يطرحون أسئلة حول الصور التي يرونها عليها. ومعرفة أنها خضعت لتعديلات عدة والتقطت بهذا الشكل لأهداف تجارية مختلفة. ويسعى بعض المشاهير لنشر هذه التوعية في كثير من الأحيان. فكتبت عارضة أزياء أسترالية مشهورة على «إنستغرام»: «المعدة المسطحة، الوضعية المثالية للصورة، الثديان المناسبان. أريد من الفتيات اليافعات أن يدركن أنّ الحياة الحقيقية ليست كذلك ولا الشكل الرائع أو الملهم. لا تهدف معايير الكمال إلا للفت الانتباه»، بالإضافة إلى عدد من المؤثّرين الاجتماعيين الذين يساهمون بتعزيز إيجابية الأشخاص تجاه أجسادهم.

أمّا وسائل التواصل الاجتماعي نفسها فتسعى إلى حفظ ماء الوجه بعد أن أدركت مدى تأثيرها في هذه المسألة. فأعلن «إنستغرام» عام 2019 عن سياسات جديدة تهدف لحماية المستخدمين تحت عمر الـ18 من بعض مستحضرات خسارة الوزن والتجميل. كما أعلن «سناب تشات» عن خاصية جديدة، اسمها «هنا من أجلك» تهدف إلى الجمع بين أشخاص يعانون من الاكتئاب أو القلق المفرط أو اضطراب الغذاء.

كما يتوفر حالياً عدد من التطبيقات والمواقع التي تساعد المريض خلال عملية الشفاء من هذه الاضطرابات، فبدلاً من وجود تطبيقات تحسب لك الوحدات الحرارية التي اكتسبتها أو حرقتها والتي أظهرت دورها في خلق اضطرابات غذائية، تشجّع هذه التطبيقات العلاجات القائمة مثلاً على «العلاج السلوكي المعرفي» أو تقنية «الرصد الذاتي»، الذي يتضمّن تسجيل الأغذية التي تم استهلاكها بالإضافة إلى المشاعر المرافقة لها، على تقبل الذات وزيادة الشهية على الأطعمة لتسهيل عملية الشفاء.