وصلت الطائرة بعد الظهر إلى مطار بكين الدّولي وكانت الوحيدة في المطار. بعد هبوطنا والسير إلى مبنى المطار، أُقفل الباب وراءنا بقفل (لُفّ الجنزير على جانبي الباب ثم أقفل). فوجئت أن يكون مطار عاصمة دولة عظمى بهذا الشكل. بعد ختم الجوازات والترحيب الحار بوجه تعلوه ابتسامة وجدّية، خرجت من الباب فوجدت أستاذاً صينياً يتكلّم العربية (Zhu lao shi) في انتظاري يرحّب بي بحرارة، وانطلقت بنا السيّارة، وكم كانت صدمتي كبيرة. أهذه هي الصين؟ أهذه هي بكين؟ مدينة مترامية الأطراف، طرقات ضيّقة، شجر باسق على جانبي الطرق، درّاجات هوائية لا تعدّ ولا تحصى، لباس موحّد للرجال والنساء.. منظر لا يزال مطبوعاً في ذاكرتي وعقلي شكّل صدمة لشاب عمره 19 سنة. صدمة كبيرة ومؤلمة لأنّني وجدت نفسي في عاصمة لدولة عظمى لا تضاهي قريتي التي تركتها في لبنان... أخذت نفَساً عميقاً وقلت في نفسي: أنا هنا لتحصيل العلم والدراسة، والصين التي أحلم بها منذ طفولتي لي كامل الثقة بأنها ستصبح في مصاف الدول المتقدّمة في المستقبل.

بدأت الدراسة بعد يومين من وصولي، وبدأت ألاحظ وألمس كم أنّ هذا البلد منظّم تنظيماً عالياً، لأنّه أوّلاً بلد ذو حضارة قديمة تمتد لآلاف السنين، وشاسع جغرافياً ولديه تقاليد عريقة، وهو يهيمن على شرق آسيا من حيث اللّغة، الحِرَف، العمارة، الموسيقى، الرقص، الأدب والفنون القتالية... ويعتبر من أقدم الحضارات وأعرقها، ليس في آسيا فقط ولكن في العالم أجمع، وقد قال فولتير فيه: «لقد دامت هذه الإمبراطورية أربعة آلاف عام من دون أن يطرأ عليها تغيّر يذكر في القوانين أو العادات أو الّلغة أو في أزياء الأصليين.. إن نظام هذه الإمبراطورية لهو في الحق خير ما شهده العالم من نظم». ثانياً، الصين بلد اشتراكي يحكمه الحزب الشّيوعي الصّيني ويديره بحكمة وتفانٍ من أجل رفاهية الشعب وتقدّمه الاقتصادي ورفع مستوى المعيشة فيه. ثالثاً، وجدت أنّ الشّعب الصّيني يعمل بتفان ويستمع بجدّية لقيادته ويتبع الأوامر بصرامة وينفّذ ما يطلب منه بإخلاص تام. هكذا بدأت رحلتي ودراستي في الصّين التي استمرت عشر سنوات.
في تلك الفترة، كان هناك تنظيم عال في مواعيد الأكل والنوم والرياضة، وفي حال التأخّر عن موعد الطعام لا يوجد أي مطعم يفتح أبوابه إلّا في الفترات المحدّدة، فيما النهوض الباكر على الموسيقى العسكرية وممارسة الرياضة الصباحية أمر عادي.
اللّغة الصينية الصعبة في ظاهرها والسهلة في حقيقتها، لغة جميلة فيها نغمة موسيقية، لا توجد فيها أحرف أبجديّة وإنما رموز (رسوم تصويريّة)، وبمساعدة الأساتذة استطعت أن أتعلّم مبادئ التحدّث والكتابة. وبدأت أتعرّف إلى معالم بكين التاريخية، وكم كانت زيارتي الأولى لحدائق «الضياء المكتمل» جميلة ومحزنة... جميلة بعدما تعرّفت إلى تاريخ هذا القصر، ومحزنة بعدما عرفت أن الغزاة الأوروبيين الذين غزوا الصين عام 1860 دمّروا المباني وأحرقوها بعدما سرقوا كل ما له قيمة من ذهب وتماثيل. عندما وقفت على أطلال هذه الحدائق التي تركت على حالها وآثار الحريق والدمار بادية بوضوح، تيقّنت أكثر إلى أي بلد حضاري وصلت. بلد بهذا التاريخ العظيم الضارب في أعماق الزمان وثورة فتية عمرها ثلاثون عاماً منذ إعلان قيام جمهورية الصّين الشعبيّة بقيادة الحزب الشيوعي الصيني والزعيم ماو تسي تونغ. في ذلك التاريخ، كانت الصين تنتج أقل من بلجيكا التي لا يتجاوز عدد سكّانها 1% من عدد سكّان الصّين. ففي سنة 1949، بدأت قصّة قيامة أمّة ونهوض دولة، 30 سنة من الانغلاق والتثقيف والتربية، وإعادة تأهيل لمجتمع فرّقته الحروب الداخلية ودمّرته الغزوات من الدول الاستعمارية، والاعتماد في عملية النهوض هذه على بناء القدرات البشرية الصينية من النواحي التربوية والصناعية والتكنولوجية.

الشعب الصيني لم يكن يحلم بل كان يعمل، والقيادة لم تكن تسوّق لأحلام إنّما كانت تخطّط


وأذكر جيّداً، في سنة 1979، كان الجميع في الصّين من شعب ونظام يتحدّثون عن «العصرنات الأربع»، وهي:
أولاً: عصرنة الزراعة وتحديثها والتي تتضمن تطوير التقنية المعلوماتية الزراعية وتقنية الزراعة الذكية والهندسة البيولوجية للأغذية.
ثانياً: عصرنة الصّناعة والطاقة المتقدّمة.
ثالثاً: عصرنة الجيش والقوّة الدفاعيّة.
رابعاً: عصرنة العلوم وكل ما تعنيه من علوم فضائيّة وطبيّة والتقنية البيولوجية.
سنة 1979، كان الجميع في الصّين من شعب ونظام يتحدّثون عن «العصرنات الأربع»، والمستوى الذي سيصل إليه الشعب الصّيني من رفاهية بين 2010 و2020


الجميع كان يتحدّث بإسهاب عن هذه الخطّة والمستوى الذي سيصل إليه الشعب الصّيني من رفاهية بين 2010 و2020. كنا نعتقد أن هذا حلم صعب أن يتحقّق، وأن خلفه دعاية حزبية تروّج لهذا الحلم. لم يكن واضحاً لدينا ولا لمستوانا الفكري أنه يوجد في الحزب والدولة قيادة تعمل بصدق وأمانة لرفاهية الشعب وعزّة الأمّة الصينية، وتعمل ليل نهار من أجل ازدهار الصين وتحقيق حلم «العصرنات الأربع». وخلال دراستي الجامعية في جامعة الطب في بكين، بدأت ألاحظ الأعمال الجبّارة والسريعة التي تنفّذ في بكين من طرقات وعمران وصناعة وتكنولوجيا، إلى درجة أنّ عقلي وعقل زملائي لم يكن يستوعب هذه السّرعة في التقدّم والازدهار، فالإصلاح الزراعي أصبح واقعاً وحقيقة، والتمدين الصّناعي والانفتاح الاجتماعي والتحوّل الاستراتيجي في ارتقاء السلم الدولي جرى بقيادة الاشتراكيّة الشيوعيّة الصّينية، وبالاستناد إلى تاريخ هذا البلد العريق والتراث الأصيل في غابر الأزمان، وبالقيادة الصينية الحكيمة والمخلصة وهمّة الشعب بزعامة دنغ شياو بينغ (في تلك الفترة) الذي آمن بأهمية بناء الإنسان لتحقيق النهوض والارتقاء وقال: «علينا الاهتمام بالتكنولوجيا والتعليم في آن واحد، بدءاً من المدرسة الابتدائية وانتهاءً بالدراسات الجامعية».
بعد أربعين سنة على وصولي إلى الصّين، فإن المستوى الاقتصادي والتكنولوجي والعلمي الذي ارتقى إليه هذا البلد في مجالات الطب والزراعة والعلوم والتكنولوجيا، زاد يقيني بأنّ هذا الشعب لم يكن يحلم بل كان يعمل، والقيادة لم تكن تسوّق لأحلام إنّما كانت تخطّط وتدير بحكمة وصدقية وأمانة. كما بدأت تخرج إلى محيطها لكي تشارك وتبني وتنقل خبراتها إلى العالم الثالث من دون أن تحيد عن المبادئ التي وضعها القائد تشو إن لاي عام 1954، والتي تعتمدها الصّين في السياسة الخارجية من أجل بناء عالم متناغم يسوده الاحترام والسلام والازدهار المشترك، والتي تتمحور حول: الاحترام المتبادل للسيادة ووحدة الأراضي، عدم الاعتداء المتبادل، عدم التدخّل في الشؤون الداخليّة بصورة متبادلة، المساواة والمنفعة المتبادلة والتعايش السلمي.
بعد هذه الرحلة الطويلة، وكأول لبناني حصل على شهادة جامعية من جمهورية الصّين الشعبية، لا يسعني إلّا أن أثمّن الفرصة التي أتاحها لي الشعب الصيني لكي أعمّق معرفتي وثقافتي بهذه الحضارة العريقة... عاشت الصداقة بين الشعب الصيني والشعب اللبناني.
* طبيب لبناني كان طالبا موفدا إلى الصين