على رغم الانتشار المتزايد لمفهوم «المسؤولية الاجتماعية» للشركات في عالم اليوم، إلا أن تعريفها وتطورها التاريخي والدوافع التي تشجع الشركات على الاضطلاع بها والنتائج التي تحققها، كما تأثيرها على المستهلكين، لا يزال غير واضح للكثير من الناس وحتى الكيانات الاقتصادية المعنية، لا سيما في لبنان والعالم العربي.ليس مفهوم المسؤولية الاجتماعية للشركات جديداً، وهو نتاج أحداث بارزة شهدها العالم وتمثلت بتطور العمل النقابي المطالب بتحسين ظروف العمال، كما الممارسات الاقتصادية الرأسمالية، خصوصاً في مظاهرها الأولى التي تركزت على تغليب الطابع المادي والربحي للشركات على حساب الجوانب الأخلاقية والاجتماعية، إضافة إلى انحسار دور الدولة ورعايتها الاجتماعية.

ما هي

يصعب إيجاد تعريف واحد متفق عليه، على المستوى الدولي، لمفهوم المسؤولية الاجتماعية للشركات، لكن تعدد التعريفات والصيغ اللغوية المستخدمة لشرح هذا المفهوم لا تلغي وجود بعض النقاط الأساسية والقواسم المشتركة التي تحدد الأطر العامة لها.
يعرّف البنك الدولي المسؤولية الاجتماعية للشركات بأنها «التزام أصحاب النشاطات الاقتصادية بالمساهمة في التنمية المستدامة من خلال العمل مع موظفيهم وعائلاتهم والمجتمع المحلي والمجتمع ككل لتحسين مستوى معيشة الناس بأسلوب يخدم التجارة والتنمية في آن». أما بالنسبة إلى المفوضية الأوروبية، فإن المسؤولية الاجتماعية للشركات هي «مفهوم تقوم الشركات بمقتضاه بتضمين اعتبارات اجتماعية وبيئية في أعمالها وفي تفاعلها مع أصحاب المصالح على نحو تطوعي».
من جهته، يشرح مجلس الأعمال العالمي للتنمية المستدامة المسؤولية الاجتماعية للشركات على أنها «الالتزام المستمر من قبل مؤسسات الأعمال بالتصرف أخلاقياً والمساهمة في تحقيق التنمية الاقتصادية والعمل على تحسين نوعية الظروف المعيشية للقوى العاملة وعائلاتهم إضافة إلى المجتمع المحلي والمجتمع ككل».
باختصار، يمكن تلخيص المسؤولية الاجتماعية للشركات بأنها التزام الأخيرة بالمعايير الأخلاقية والقانونية من حيث ممارستها لنشاطاتها وأعمالها بشكل يتسم بالمسؤولية تجاه العاملين فيها وعائلاتهم والمجتمع المحلي والمجتمع ككل. ومن المهم التنبيه إلى أن المسؤولية الاجتماعية للشركات ليست مجرد عمل خيري، بل هي استثمار في المجتمع. كما أنها لا تعني إدارة المؤسسة فحسب، إنما تشمل جميع العاملين فيها.

تطور المفهوم

تعتبر معظم المراجع أن المسؤولية الاجتماعية بدأت تتبلور بشكل واضح في منتصف خمسينيات القرن الماضي، لكن جذورها وإن كانت لم تتخذ منحى مؤسساتياً أو طابعاً شاملاً محدد المعالم تعود إلى منتصف وأواخر القرن التاسع عشر كنتيجة للثورة الصناعية وتصاعد الاحتجاجات العمالية والنقابية ضد عمالة الأطفال وظروف العمل المرهقة التي كانت سائدة، ما دفع بالكثير من الشركات إلى تليين سياساتها والرضوخ للضغوط.

لا يزال مفهوم المسؤولية الإجتماعية طوعياً في
أغلب دول العالم


لكن، على رغم الكثير من الإنجازات التي تحققت إلا أنه حتى منتصف القرن العشرين بقيت الفلسفة الاقتصادية الكلاسيكية هي السائدة، والتي ترى أن واجب الشركات الأساسي هو زيادة ربحيتها من دون الالتفات إلى المجتمع الذي تعمل فيه.
ولعل أبرز رموز هذه الفلسفة الاقتصادية الشهيرة ميلتون فريدمان الذي اعتبر أن «مسؤولية الشركة تتحقق من خلال سداد الأجور للعاملين مقابل العمل الذي يقومون به، وتقديم السلع والخدمات للمستهلكين مقابل ما يدفعونه من أموال، وسداد الضرائب للحكومات التي تقوم بتوفير الخدمات العامة للمواطنين، واحترام سيادة القانون عن طريق احترام العقود المبرمة. وأن تبني الشركة لفلسفة المسؤولية الاجتماعية من شأنه أن يقلل أرباحها ويزيد تكاليف العمل».
منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي بدأت أوروبا وخاصة الولايات المتحدة تشهد بروزاً لافتاً لجمعيات حماية المستهلك، والجمعيات المدنية التي بدأت بالتأثير على سلوك الشركات ومراقبة جودة منتجاتها ومدى مطابقتها لمعايير بيئية وصناعية محددة. إضافة إلى ذلك شهدت هذه الفترة صعود جماعات ضغط متعددة سواء البيئية أو النسوية أو التي تعنى بحقوق الأقليات والمعوقين، ما فرض على الشركات إعادة النظر بسياستها التوظيفية والتراجع عن بعض القرارات التمييزية بحق فئات معينة من الناس.
كما ساهمت عوامل عدة في تمتين مفهوم المسؤولية الاجتماعية للشركات وأبرزها العولمة التي دفعت بالكثير من الشركات وتحديداً المتعددة الجنسيات إلى رفع لواء المسؤولية الاجتماعية للظهور بصورة إيجابية أمام شعوب دول العالم الثالث ولتبعد عنها الشبهات بأنها مظهر جديد من مظاهر الاستعمار الاقتصادي.
كذلك أدت الفضائح الأخلاقية التي طالت عدداً كبيراً من الشركات الكبيرة من حول العالم سواء تلك المرتبطة بالرشاوى أو التقصير المهني، إلى تشجيع الشركات على إبداء قدر أكبر من الشفافية بهدف تلميع صورتها. وأدى التطور التكنولوجي وما رافقه من جدل حول مستقبل العمال في عصر الآلة واتجاه العديد من الشركات إلى تفضيل هذه الأخيرة على الإنسان إلى زيادة الاهتمام برأس المال البشري والسعي إلى تطويره، وإلى الأخذ بشكل أكبر بمتطلبات المستهلكين وأذواقهم لمحاولة كسب أكبر عدد ممكن منهم في ظل التنافس المحتدم على جميع المستويات بين الشركات.

استثمار اجتماعي مربح؟

لا يعتبر مفهوم المسؤولية الاجتماعية للشركات ملزماً قانونياً، ولا يزال كما عرفته المفوضية الأوروبية «طوعياً». لكن ثقله الأخلاقي والمعنوي منحه وزناً كبيراً جعل من المستحيل على الشركات غض الطرف عنه وتجاهل مسؤوليتها تجاه المجتمعات التي تعمل فيها. ولعل أبرز المحاولات لتثبيت دعائم هذا المفهوم وتحصينه أخلاقياً تجسدت بصدور الميثاق العالمي للأمم المتحدة الخاص بممارسة الأعمال التجارية والشركات The United Nation Global Compact UNGC عام 2000.
الميثاق الذي انضمت إليه حتى يومنا هذا أكثر من 9000 شركة من 167 دولة يعتبر أكبر مبادرة طوعية لتعزيز مواطنة الشركات ويستند إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كذلك إعلان منظمة العمل الدولية بشأن المبادئ والحقوق الأساسية في العمل، وإعلان ريو الخاص بالبيئة والتنمية، واتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد.
يضم الإعلان عشرة مبادئ تقسم إلى أربع مجموعات وهي:

قوق الإنسان

المبدأ 1: يتعين على المؤسسات التجارية دعم حماية حقوق الإنسان المعلنة دولياً واحترامها.
المبدأ 2: يتعين عليها التأكد من أنها ليست ضالعة في انتهاكات حقوق الإنسان.

معايير العمل

المبدأ 3: يتعين على المؤسسات التجارية احترام حرية تكوين الجمعيات والاعتراف الفعلي بالحق في التفاوض الجماعي.
المبدأ 4: يتعين عليها القضاء على جميع أشكال السخرة والعمل الجبري.
المبدأ 5: يتعين عليها الإلغاء الفعلي لعمل الأطفال.
المبدأ 6: يتعين عليها القضاء على التمييز في مجال الاستخدام والمهن.

البيئة

المبدأ 7: يتعين على المؤسسات التجارية التشجيع على اتباع نهج احترازي إزاء جميع التحديات البيئية.
المبدأ 8: يتعين عليها الاضطلاع بمبادرات لتوسيع نطاق المسؤولية عن البيئة.
المبدأ 9: يتعين عليها التشجيع على تطوير التكنولوجيات غير الضارة بالبيئة ونشرها.

مكافحة الفساد

المبدأ 10: يتعين على المؤسسات التجارية مكافحة الفساد بكل أشكاله، بما فيها الابتزاز والرشو.
نقص الإلزامية في تطبيق المفهوم وغياب الأطر والوسائل العقابية التي تفرض تطبيقه عوضت عنها الدراسات والأبحاث التي بيّنت الآثار الإيجابية الضخمة التي تنتج عن تطبيق الشركات لمفهوم المسؤولية الاجتماعية سواء من حيث جذب عدد أكبر من المستهلكين، واستعداد نسب متزايدة من المستهلكين لدفع مبالغ إضافية مقابل الحصول على منتجات أو خدمات صادرة عن شركات مسؤولة اجتماعياً، أو انعكاس الالتزام بهذا المفهوم على إنتاجية الموظفين في الشركات، وتحسين صورة الشركات وغيرها الكثير...
قد يجادل البعض بأن التزام الشركات بالمسؤولية الاجتماعية إنما ينبع من مصلحة أكثر من أنه وليدة قناعة بضرورة خدمة المجتمع، نظراً للفوائد الكثيرة الناجمة عن الالتزام بهذا المفهوم. قد لا تكون وجهة النظر هذه منافية للمنطق بالمطلق، لكن وطالما ان الشركات في تعريفها ليست مؤسسات خيرية فإن أي عمل قد يؤدي إلى خدمة المجتمع لهو بالطبع إيجابي مهما كانت أسبابه!




المسؤولية الاجتماعية في لبنان مولود في طور النموّ

لا يزال مفهوم المسؤولية الاجتماعية للشركات في لبنان حديثاً وفي بداياته، بحسب رئيس مجلس إدارة «سي اس آر ليبانون» خالد القصار الذي يشرح أنه، وفقاً لدراسة قامت بها «سي اس آر ليبانون» مع مجموعة من أبرز الصحف اللبنانية، «تبيّن أن مفهوم المسؤولية الاجتماعية للشركات لم يكن متداولاً قبل عام 2009 إلا في بعض المقالات فقط». يكشف القصّار أن «هيئات القطاع الخاص في لبنان، وبخاصة جمعيات الصناعيين والتجار وهيئات رجال الأعمال، لا تزال غائبة عن مفهوم المسؤولية الاجتماعية للشركات ولا توليه الاهتمام اللازم، على الرغم من منافعه الكبيرة لأن ما هو خير للمجتمع هو خير للشركات حكماً». أما عن محاولة قوننة المفهوم، يقول القصّار إنه في «عام 2013، تقدم النائب غسان مخيبر باقتراح قانون يساعد على تشجيع المسؤولية الاجتماعية للشركات، لكنه للأسف لا يزال نائماً في الأدراج».
ويوضح أن هناك لغطاً في لبنان بين العمل الخيري ومفهوم المسؤولية الاجتماعية، لافتاً النظر إلى أنه يفترض توافر 3 شروط أساسية لكي نتحدث عن مسؤولية اجتماعية للشركات وهي:
1- أن يكون هنالك استراتيجية معلنة للشركة.
2- تحديد واضح للأهداف المنوي إنجازها.
3- إصدار تقرير سنوي. مع الإشارة إلى أن التقرير يخضع لشروط معينة غير بقية التقارير التي قد تصدرها الشركات.
وفي هذا السياق، يقول رئيس مجلس إدارة «سي اس آر ليبانون» إن 4 مصارف فقط في لبنان لديها أقسام خاصة تعنى بمفهوم المسؤولية الاجتماعية، فيما البقية لا تزال تربطه بأقسام التسويق.
وفي إطار نشر ثقافة المسؤولية الاجتماعية للشركات، أعلن القصار أن المنتدى السادس للمسؤولية الاجتماعية في لبنان الذي سيعقد في 27 الجاري في فندق فينيسيا سيشهد للمرة الأولى إطلاق التقرير الوطني الأول عن واقع المسؤولية الاجتماعية في لبنان.