على الأرجح، سيقصي هذا النّص، عندما ينتهي، نفسه. لأنّه ليس على قدر كافٍ من السّرعة كي يوازي سرعة عصرنا، ولأن كلّ شيء اليوم -والشّيء أعمّ الألفاظ- يشرع بالسّير نحو الامّحاء، مباشرة بعد الولادة.
هذا أنّ عالم اليوم أخذ على عاتقه مهمّة الحفاظ على الفراغ، فراح يفتّت كلّ شيء كي يكون الإنسان مهيّأ باستمرار لاستهلاك المزيد. وهكذا تفتّت الكلمة المكتوبة من بين ما تفتّت إثر انشداه الإنسان بالسّرعة والتّبديل. لقد أُنتج عالم خسر قيمته الفوتوغرافيّة، تلك الّتي توثّق اللّحظة، لأنّ العالم، انخرط في عمليّة تذويب مستمرّة وتحوّل متواصل، فمهّد بذلك للدّخول في عصر ما بعد اللّحظة، عصر الفيديو، عصر الصّوت والصّورة. كما أنه لم يعد بالإمكان وصف هذا العالم بالكلمات المكتوبة سوى خجلاً، وبتلك التي تحيل إلى التّلاشي من قبيل «كان ثمّة كذا» و«لم يعد هناك كذا». فما توثّقه الكلمة المكتوبة يذوب في لحظة الكتابة نفسها. الإذابة هنا هي الاستجابة الضّروريّة لإلصاق مفهوم الاتّصال بالخرافة المنفصلة عن اللّوغوس، عن المنطق، أي التي لا تمهّد لسؤال ولا تكشف شيئاً ولو خضعت لمحاولات تأويل لانهائيّة.

رسم (فرانسوا الدويهي)

وكأنّ الاتّصال والامتداد غدَوَا أسطورة لا تنفع حتّى في الرّوايات والقصائد من حيث إنّه لا يمكن توظيفها لغرض، ولا تعدو كونها اجتراراً لألفاظ فاقدة للمعنى يتوجّب تجنّبها. وهكذا، اكتسب الصوت والصّورة مكانة جوهريّة، لقدرتهما على ملاحقة التّسارع الذي ينخرط فيه الحاضر. وعليه، فإنّ هذا الإنسان نفسه، قد أخلص للصّوت والصّورة كما لم يخلص للكلمة. فالكلمة المكتوبة، عدا التّجويف الّتي اختبرته في عصر التّحوّل، بطيئة أيضاً، تحتاج إلى معاناة ومجاهدة لتفكيك محتوياتها. ولذلك، فهي لم تعد لائقة بإنسان اليوم الذي انطبعت في ذاته التغيّرات التي شكّلت وصنعت نموذج «الدّيليفيري» المهيمن. وهنا، لا يعود من الممكن الإغفال عن مركزيّة الصّوت والصّورة في سيرورة تشكيل الذّات ورسم الهويّة المستلّة من المعنى، لما لها من قدرة فريدة على التّأثير في الوعي على الصّعيد الفرديّ. فهي بهذا المعنى، الفاعل الماهر الذي ينعكس فعله على الذّات، ومعلّم يُستفسر عمّا لم يتّضح من لوينات المعنى والأفكار. ولكنّه، ومع الأسف، لا يشارك دهشته. فالصّورة والصّوت لا يفتّتان الوثوقيّة، الّتي هي الحاجز بينك وبين الدّهشة، بل تكرّسانها. ولذلك، يكون المشاهد أو المستمع منفعلاً صرفاً، ومتلقّياً محضاً، كأنّه معتلّ محلّ عناية: عناية ثقافيّة. فهنالك من يقرأ له، ويحلّل ويفكّك بدلاً منه، بل ويقوم مقامه في ميدان التّفكير. وهنا يمكن الانتقال بانسيابيّة للحديث عن انسحاب جوهريّة الصّوت والصّورة على النّص المكتوب، لأنّ النّص امرأة تتطفّل على اختيار الموضوع، تُنجب أطفالاً على هيئة سياقات لسانيّة. أو لعلّها امرأة قاتلة، فهي تقتل سياقات لسانيّة، وتمنح الحياة لقلّة تبقى. لكن، على كلّ حال، لا تهمّ هنا الاستعارة، ما يهمّ، أن النّص امرأة، (أتمنّى لو كان من الممكن تأنيثه)، يعني أنّه إنسان، وبالتّالي يصيبه ما يصيبنا. وهكذا، يصبح من الممكن استرجاع مركزيّة الصّوت والصّورة لتصيّد كيفية استفحالهما في نصّ اليوم، تماماً كاستفحالهما في كاتب اليوم، بما هما، الكاتب والنّص، امتداد لجوهر واحد. فالنّص في عصر ذوبان الكلمة، بات صنو العين والأذن، أي أنّه يُريك ويُسمعك، فقط. وأقصد بالرّؤية هنا الارتسام الظّاهر للكلمة، أي قبل إخضاع الكلمة لمساءلة مفتوحة. ولذلك تجد كثيراً من النّصوص، إذا ما تيسّر لك الإفلات من إهمال القراءة، وكأنّها تمارين لحاسّتي النّظر والسّمع على شاكلة، رأيت كذا وكذا بينما كنت أتمشّى في زقاق ما، أو أنّني سمعت كذا وكذا عندما كنت أحدّد طريقي في ليلة ما... فيصبح النّص الأدبي شبيه النّصوص «التوب سيلير»، على طريقة، «كيف تحسّن سمعك»، أو «عشر خطوات لاكتساب عيون النّسر». وهذا تماماً، ما يعيدك إلى القلق القديم، القلق الذي يجلب أعظم تردّد وأعمق ارتباك، لأنّه يسقط المؤلّف في مأزق المعنى. بل ويميته، بالمعنى الحرفيّ، لا على طريقة رولان بارت. لأنّه من الممكن، من دون شعور بالخجل، أن يُعدّ هذا طرداً للّغة، كأنّه عودة إلى بدائيّة ما. وعلى الرّغم من أنّ النّص يبنى بالكلمات. إلّا أنّ الكلمة وحدها، لا تعني أنّ النّص قد وُلد ونبت. وحده التعدّي إلى ما لا تراه العين ولا تسمعه الأذن يهيّئ لولادة النّص، تماماً كالرّقص. فعلى الرّغم من أنّ الرّقص يحتاج إلى جسد، إلّا أنّ الجسد لا يؤدّي رقصة إلّا إذا عبّرت إيماءاته عن رغباتنا الدّفينة التي تظهر من خلال التّعبير الجسديّ فقط. فالنّص محاورة بين الكاتب وبين اللّغة، لا بينه وبين حواسه. محاورة على طريقة محاورات أفلاطون. أي تعميق لتجلّيات الواقع للظّفر بما تكتنزه من تآويل تحيلنا على المعنى. وإن لم يكن هكذا، فما معنى أن يقول الثّعلب للأمير الصّغير في قصّة the little prince إنّ ما هو جوهريّ، لا يرى بالعين، بل بالقلب؟ ومن هنا يمكن القول، إنّ ما هو جوهريّ، أي المعنى، لا يُرى بالعين، ولا يُسمع بالأذن، بل يتكشّف من خلال محاورة اللّغة. وبهذا يصير المعنى مسألة لغويّة صرفة، يكفي لعناقه أن نمارس اللّغة بما هي تجاوز للحواس، ومراوغة لليقينيّات الحسيّة، إذ تصير اللّغة في وجه من أوجه معانيها، تفادياً لشقاء البحث عن المعنى المتربّص خارجها، هذا إذا ما كنت ممّن ابتلعه هذا الشّقاء. لأنّها تريك، والرّؤية هذه المرّة أداة لفهم المطويّ والمستور، أنّ المعنى ملتصق بك، تماماً كما تلتصق أنت بالسّؤال الذي يقودك للبحث عنه، بما هو، أي السّؤال، اقتحام للّغة أيضاً. والآن، أودّ أن أدعوك لقراءة قصّة «الأمير الصّغير» للكاتب أنطوان دو سانت إكزوبيري ثمّ العودة إلى هذا النص، لأقول ختاماً، إنّ اللّغة وحدها، بإمكانها أن تريك أنّ ثمّة خروفاً داخل الصّندوق، وهذا تماماً، ما أسمّيه: المعنى.