ليس لبنان وحده من ينتقل من كارثة إلى كارثة أكبر. الأمر يجري على هذا النحو في العالم بأسره، بحسب التقارير الأممية المتعلّقة بالمناخ الصادرة مؤخراً.فقد بيّنت هذه التقارير أن جائحة «كورونا»، مع ما رافقها من شلل في الحياة العامة وتعثّر في الاقتصاد العالمي، لم تؤخّر تراكم الغازات في الغلاف الجوي ولم تؤدّ إلى وقف تغير المناخ. إذ بلغت تركيزات غازات الاحتباس الحراري في الغلاف الجوي مستويات قياسية، ولا تزال تتزايد. كما أن الانبعاثات العالمية في طريقها إلى الوصول إلى مستويات ما قبل الجائحة، بعد انخفاض مؤقت نجم عن الإغلاق والحجر المنزلي والتباطؤ الاقتصادي. وتوقّعت التقارير نفسها أن العالم لن يتمكّن من تحقيق الأهداف المحدّدة في اتفاقية باريس المناخية لعام 2015، والتي تنصّ على إجراءات للحفاظ على درجة الحرارة العالمية عند مستوى يقلّ عن درجتين فوق مستويات ما قبل العصر الصناعي... ولكن، رغم ذلك كله، أُرجئ الاجتماع الدولي (الكوب 26) حول المناخ الذي كان سيُعقد نهاية هذا العام للمرة الثانية، بسبب «كورونا»، ما يعني تأجيل إعلان تنصّل الدول من التزاماتها ومحاسبتها، إذ كان مقرّراً أن يبدأ تطبيق اتفاقية باريس منذ بداية عام 2020!
إلا أن للكوارث في لبنان «طعماً» آخر. فالتراجع في معالجة القضايا البيئية، لم يعُد يعني تراجعاً في نوعية الحياة فحسب، وإنما تهديد لأسسها ومقوّماتها، كما بات تهديداً وجودياً لنوع فريد من الأنواع الإنسانية يحمل اسم «لبناني». فالانهيار الاقتصادي المترافق مع انهيار سياسي، والمتزامن مع جائحة «كورونا» وكارثة زلزال المرفأ الذي دمّر العاصمة، يترافق أيضاً مع انحلال النظام الأخلاقي والمعرفي وانهيار النظام الطارئ لمعالجة النفايات المنزلية الصلبة، ومع كارثة مزمنة تتمثل بعدم معالجة النفايات السائلة المنزلية والصناعية ما يتسبّب في تلويث التربة ومياه الأنهر والبحيرات والبحر والمياه السطحية والجوفية والنظام الغذائي… كل تلك الكوارث، لم تعد هناك موازنات لمعالجتها ولا حتى للتخلص العشوائي منها!
وبعد فشل الحكومات المتعاقبة في وقف هذه الكوارث وغيرها مما يتعلق بملفات الطاقة والمياه والنقل والزراعة والتنمية بشكل عام… خرجت أصوات مطالبة بالفيدرالية أو اللامركزية الإدارية، أو بإعادة الاستعمار والوصاية كمخرج! ويبدو أن هذه الأصوات، غير المنتِجة لا في الفكر ولا في السياسة والاقتصاد، تستورد الأفكار كما تستورد السلع، من دون دراية، متجاهلة أن كلفة الحلول الجزئية واللامركزية أكبر بكثير من كلفة الحلول المركزية على كل المستويات وفي كل القطاعات، وأن أحد أهم أسباب فشل عمليات التنمية بعد الحرب الأهلية، هو أنها انطلقت من فكرة «الإنماء المتوازن»، على قواعد لامركزية وطائفية، وليس من فكرة «الإنماء المتكامل»، على قواعد اقتصادية صحيحة. ففكرة التكامل تعني الأخذ في الاعتبار، أولاً، مقوّمات الطبيعة التي يتأسس عليها الاقتصاد وليس العكس. كما تأخذ في الاعتبار توزّع السكان وكثافتهم وليس نوعهم وطائفتهم. وهي تعني التنويع بدافع زيادة الغنى لا الاحتكار والتجويع بدافع الاستعباد والسيطرة. كما تعني إعادة النظر في تعريف الحكم بما هو تحمّل لمسؤولية إدارة شؤون الناس والموارد (وديمومتها) وحفظ حقوق الإنسان والأجيال المقبلة، وليس احتكار السلطة والحق في الأمر.
الأفكار المُنقذة موجودة إذا أحسنّا التفتيش عليها بين كتبنا العتيقة وعند الكثير من كتابنا المغمورين، ولا حاجة كبيرة إلى الاستيراد من الخارج. والأفكار العميقة والمنقذة لن نجدها على الشاشات المملوكة من الطبقة الفاسدة والحاكمة نفسها… بل علينا أن نفتش عليها في أماكن ووسائط أخرى. وعلينا، أيضاً، أن نسرع كثيراً. إذ إن الوقت لم يعُد لمصلحة الحقيقة ولا لحلم الحياة الهانئة. الموت بات أسرع من الحلول والتفتيش عنها. وليست المشكلة، تحديداً، في هذه السنة التي يقول عنها المنجمون إنها مشؤومة. المشكلة في سرعة الوقت التي تسابق سرعة الموت. علينا أن نتوقف عن الاهتمام بمتابعة الأخبار اليومية حول سير التدخلات الدولية أو انتظار وعي ضمير الطبقة الحاكمة. الوقت يداهم وعلى المهتمّين بالإنقاذ الإسراع إلى فتح الكتب القديمة واستعادة أدوار أصحاب الفكر اليائس والذين يبقون أفضل من أصحاب الفكر الفاسد... قبل فوات الأوان.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا