وصف وزير الطاقة الإسرائيلي، يوفال شتاينتس، بدء إسرائيل ضخّ الغاز الطبيعي إلى مصر بـ«الخطوة التاريخية» التي تعكس «أكبر تعاون اقتصادي بين البلدين»، منذ التوقيع على «اتفاقية كامب دايفيد» قبل أربعين عاماً، معتبراً أن هذه الخطوة وغيرها من الخطوات من شأنها «تعزيز محور السلام» في المنطقة. جاء كلام شتاينتس تعليقاً على إعلان تل أبيب، رسمياً، بدء تزويد مصر بـ85 مليار متر مكعّب من الغاز الإسرائيلي، بقيمة 19.5 مليار دولار على مدى 15 عاماً، تنفيذاً للاتفاق الموقّع بين الجانبين عام 2018. ولم يخطئ الوزير الإسرائيلي في وصفه الاتفاق بـ«التاريخي»، إنما هذا يقتصر على إسرائيل نفسها، أما في ما يتعلق بالجانب المصري، فالمسألة موضع شك. إذ لا يعدو دور القاهرة كونها «شريكاً تابعاً» لإسرائيل، على رغم الاكتشافات الهائلة من الغاز الطبيعي في المنطقة الاقتصادية المصرية في المتوسط، والتي كان من شأنها، في نظام سويّ، أن تُحوّل مصر إلى منافس ندّي للدولة العبرية.الاتفاق جزء من سلسلة خطوات تسعى إسرائيل إلى تحقيقها تباعاً، في حين يكتفي الجانب المصري بوعود يتعذّر تطبيقها. لكن الطرف الأميركي، الحاضر في كلّ ما يدور بين القاهرة وتل أبيب، حاضر دوماً للعمل على تليين مصر، في حال عاندت الأخيرة، أو استعصى موقفها على الحلّ بالأداة الإسرائيلية. ويُعدّ الاتفاق، الذي يحوّل إسرائيل إلى مزوّد بالغاز في سوق الطاقة الإقليمي، من أهمّ نجاحات تل أبيب في العقود الأخيرة. إذ أنه يؤمّن لها نقل جزء من غازها إلى القارة الأوروبية عبر منشآت التسييل المصرية، إلى جانب أنبوب غاز طموح تعمل عليه مع قبرص واليونان وإيطاليا لتصدير الجزء الآخر. ولا تخلو الصفقة من مفارقات، ليس في ما يتعلق باستيراد مصر للغاز الإسرائيلي وحسب، وهو ما كان بالإمكان تأمينه من جهات بديلة بلا تبعات لاحقة، بل في أن الجانب المصري نفسه هو واحد من أهمّ المنافسين المستقبليين لإسرائيل في مجالات استخراج الطاقة الغازية من المتوسط وتوريدها باتجاه السوق الأوروبية نفسها التي تعمل عليها إسرائيل. وكان يُفترض بالاكتشافات الهائلة الغازية المصرية في المتوسط أن تشكل دافعاً كافياً للقاهرة للتموضع التنافسي المسبق أمام إسرائيل، لا أن تعمل هي على تعزيز صادرات تل أبيب عبر تمكينها من استخدام البنية التحتية المصرية لتسييل غازها، تمهيداً لنقله إلى السوق المستقبلية للغاز المصري!
على هذه الخلفية، تصبح المبرّرات المصرية «الرنّانة»، المتمحورة حول الفائدة الضريبية والرسوم والأسعار التنافسية لتأمين حاجات السوق المصرية من الغاز الطبيعي، غير ذات معنى. إذ أن المسألة تتجاوز ذلك إلى أبعاد استراتيجية دونها أيّ فائدة تكتيكية مرحلية للاقتصاد المصري.
تدفع الولايات المتحدة كلّ اللاعبين الجدد إلى العمل على قاعدة الشراكة واللاتنافس

في المقابل، لا تقتصر الفائدة المُحقّقة لإسرائيل على عائدات مالية ناتجة من تأمين احتياجات السوق المصرية من مادة الغاز، بل تمتدّ إلى أن الاتفاق، كما هو، يلغي عملياً إمكانية المنافسة لدى الجانب المصري في مجالات تصدير الغاز إلى الأسواق المستهدفة، سواء في أوروبا أم آسيا، الأمر الذي يحوّل مصر عملياً من منافس محتمل وقاسٍ إلى «شريك تابع». وفي سبيل تحقيق هذا الهدف أيضاً، تعمل إسرائيل، بمساندة أميركية واضحة، على تكبيل الجانب المصري بوعود لا ضمان لتنفيذها لاحقاً، بقدر ما تُبقي مصر تابعةً للمخطّطات الموضوعة لتغيير المعادلات في سوق توريد الطاقة من المتوسط، حيث لإسرائيل ثقل وتأثير وازنان. ولعلّ واحداً من أهمّ تلك الوعود، والذي تتّجه مصر الآن كي تبتعد عنه، هو أنبوب الغاز الإسرائيلي، الذي بات وفقاً للمعطيات خارج متناول الاستفادة المصرية، بعد حصره بالجانبين القبرصي واليوناني، ومن ثمّ الإيطالي باتجاه السوق الأوروبية الأوسع.
وكان الإعلام العبري كشف، خلال العام الماضي، أن الاتفاق المبرم مع مصر ليس إلا جزءاً من مخطط إسرائيلي - أميركي (موقع المونيتور بنسخته العبرية 01/08/2019) يستهدف، إضافة إلى استخدام منشأتين مصريتين موجودتين حالياً لنقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا مسيلاً، إنشاء بنية تحتية لتسييل الغاز الإسرائيلي في الضفة الغربية من البحر الأحمر في الأراضي المصرية، الأمر الذي يُمكّن إسرائيل، وكذلك مصر (بوصفها شريكاً تابعاً لا منافساً)، من توريد الغاز إلى الأسواق الآسيوية الضخمة التي تستهلك 70% من سوق الغاز العالمي. في الفائدة المصرية، يقول مسؤولون رفيعو المستوى في وزارة الطاقة الإسرائيلية إن إقامة المشروع تؤمّن لمصر فرص عمل لآلاف المصريين في فترة التأسيس، فضلاً عن المئات من فرص العمل في فترة التشغيل اللاحقة، وذلك مقابل فتح أسواق آسيا أمام الغاز الإسرائيلي، الذي سيكون معفوّاً بطبيعة الحال من رسوم عبور قناة السويس، نتيجة تموضع منشأة التسييل خارجها.
بناءً على ما تقدّم، لا يقتصر «حلف الطاقة»، كما يسمّيه عدد من الخبراء الإسرائيليين، على مسألة توريد غاز بين الجانبين، بل يتعدّاها فعلياً إلى تسخير مصر نفسها أداةً في خدمة إسرائيل ومكانتها في سوق الطاقة الإقليمي والدولي. ولا يقتصر هذا على مصر، بل إن الولايات المتحدة تسعى في دفع كلّ اللاعبين الإقليميين الجدد في سوق الطاقة، أو معظمهم، إلى العمل على قاعدة الشراكة واللاتنافس، بحيث تكون إسرائيل، في الحدّ الأدنى، متقدّمة في ما بينهم لضمان تنفيذ ما يُخطَّط له أميركياً، من دفع القارة الأوروبية إلى تقليص اعتمادها على الغاز الروسي، مقابل اعتمادها أكثر، من دون خشية من خلافات مستقبلية بين المورّدين، على الغاز المتوسّطي. وهذه المصلحة الأميركية الاستراتيجية، بأبعادها السياسية والأمنية والاقتصادية، تتقاطع مع المصلحة الأولى المتمثلة في تعزيز مكانة إسرائيل الاقتصادية والسياسية في الشرق الأوسط، على حساب شعوب المنطقة ومقدّراتها.