الدولة التي لا تعرف أعداد مهجّريها من الجنوب، ووجهة نزوحهم، وأوضاعهم النفسية والاجتماعية والاقتصادية... من «الطبيعي جداً» أن يُترك معوّقوها وذوو الصعوبات التعلمية فيها من دون علاجات ورعاية وتعليم، لأنها في الأحوال الطبيعية لا تملك بياناتهم الشخصية، فكيف في أوقات الأزمات؟مع بدء الاعتداءات الإسرائيلية على المناطق الجنوبية المتاخمة للحدود مع فلسطين المحتلة، أقفلت المدارس الرسمية والخاصة أبوابها، بما فيها المدارس الدامجة والمتخصصة، وأصدرت وزارة التربية تعميماً همّشت بموجبه ذوي الإعاقات والصعوبات التعلمية، فدعت الطلاب النازحين من المناطق الحدودية إلى الالتحاق بالمدارس والثانويات الرسمية القريبة من أماكن نزوحهم، بصرف النظر عن كونها لا تتلاءم جميعها مع الاحتياجات الخاصة لهذه الشريحة من الطلاب.
مصادر في وزارة التربية تنفي وجود أي إحصاء دقيق أو بيانات حول ذوي الإعاقة والصعوبات التعلمية «كونهم ليسوا جميعاً مسجلين في مدارس دامجة». وتفسّر استثناءهم من خطة الالتحاق بالمدارس القريبة من أماكن نزوحهم بأن الوزارة «لا تتدخّل في القطاع الخاص، ولأن جمعيات كبرى تتولى عادة تعليم ذوي الصعوبات التعلمية ومعظمها لديها فروع عدة لاستقبال النازحين».
وحتى بعدما لاحظت وزارة التربية عبثية خطة توزيع الطلاب بحسب أماكن النزوح، مع عزوف عدد كبير منهم عن الالتحاق بمدرسة أخرى، لم يدخل ذوو الاحتياجات الخاصة والصعوبات التعلمية في دائرة الاهتمام. استدركت «التربية» الأسباب المادية التي تحول دون الالتحاق، فحددت أماكن «ثقل» النازحين، واختارت 10 مدارس رسمية وخصصت مساعدات مالية للملتحقين على شكل بدلات نقل وجلسات دعم نفسي لمن يحتاج منهم، ولكن من دون أن يكون بينها أي مدرسة دامجة ومتخصصة باستقبال ذوي الاحتياجات الخاصة.
كذلك نفضت وزارة الشؤون الاجتماعية يدها من المسؤولية عن مراكز ذوي الإعاقة في الجنوب، فلم تضع أي خطة لضمان حصول المعوقين، سواء نزحوا أو لا، على حقهم في الرعاية والتأهيل. صحيح أنّ عدد هذه المراكز قليل في المناطق الحدودية، وتقدّرها مصادر في الوزارة بثلاثة، لكن أغلب المستفيدين منها تعطّل علاجهم وتعليمهم، فقد «انقطع القسم الأكبر من التلامذة في مركز الإمداد للرعاية والتأهيل في بنت جبيل عن التعليم والعلاج بعد إقفاله بسبب الظروف الأمنية، فيما التحق جزء قليل جداً بمراكز أخرى»، بحسب مدير المركز مرتضى حب الله.
ويصطدم التحاق الطلاب بمراكز قريبة من أماكن نزوحهم بعراقيل، في ظل الأزمات المالية التي تواجهها جمعيات ذوي الإعاقة في كل المناطق وتجعلها عاجزة عن تلبية احتياجات طلابها الأساسيين، فضلاً عن النازحين.
استثنت وزارة التربية ذوي الاحتياجات الخاصة من خططها للنزوح


وتحاول المراكز المقفلة قسراً في الجنوب التعويض عن الفاقد التعليمي عبر تقديم خدمات تربوية عن بعد مع توقف الخدمات العلاجية، مثلما تفعل جمعية «إبداع» المتخصصة في حالات التأخر العقلي والشلل الدماغي في عيتا الشعب، بعد إقفالها وتعرضها للقصف في 15 تشرين الأول الماضي. هذه الخطة البديلة «لا تعفي 125 طالباً من الآثار النفسية والاجتماعية والتربوية لأن ارتياد المركز يجعلهم أكثر تركيزاً ويكاد يكون المتنفّس الوحيد لهم، وقد بدأ تغيّبهم عنه ينعكس سلوكيات سلبية»، بحسب مديرة الجمعية مريم سرور.
في السياق نفسه، تفتح مراكز ذوي الإعاقة في المناطق الجنوبية البعيدة عن نقاط الاشتباك مثل صور والنبطية بعدد طلاب أقل من المعتاد، علماً أنها تستقبل عدداً ضئيلاً من النازحين. إلا أنّ وقوعها في الجنوب «لا يطمئن»، كما تقول والدة أحد الطلاب المصابين بمتلازمة داون، لذلك امتنعت عن إرسال ابنها من كفرا إلى صور لمتابعة تعليمه. وتشير مديرة مركز «مُصان» المتخصص في الإعاقة العقلية في صور نجاة سكماني إلى «تغيّب تام لـ 15% من طلابها، منهم من غادروا البلاد، وتغيّب متقطّع لـ 40% منهم يحضرون يوماً أو اثنين في الأسبوع ربطاً بحدة الاشتباكات». وتؤكد سكماني أن الانقطاع عن العلاج النفسي والنطق والانشغالي والحسي حركي والفيزيائي، ينجم عنه «عدم استقرار نفسي وسلوكيات عدائية نتيجة الحبس المنزلي، وهو ما جرّبناه خلال جائحة كورونا»، و«لا يمكن للأهل التعويض عما يفوت الأطفال من ذوي الإعاقات العقلية الذين يجري تلقينهم عن طريق التكرار الروتيني، وعندما يحصل الانقطاع ينجم عنه كسل دماغي»، لذلك تتوقع عودة «صعبة جداً عليهم وعلى فريق العمل». وتلفت إلى أن «الأذى الأكبر للنزوح يصيب أطفال التوحّد المعتادين على نمط حياة معين. نزوحهم إلى منزل آخر والتحاقهم بمركز جديد وسط أساتذة ومعالجين ورفاق جدد يقلب حياتهم رأساً على عقب».