هل تصح العودة إلى نظريات علم نفس الجماهير في مقاربة الانتفاضات العربية الراهنة؟ وأي دور للوعي الجمعي في تحديد أهداف الجمهور، واختلاف أولوياته عبر الزمان والمكان؟ في كتابه التأسيسي «سيكولوجية الجماهير» الصادر عام 1895، يحدد عالم الاجتماع الفرنسي غوستاف لو بون (1841 ــــ 1931) أهم الأطر السوسيولوجية والنفسية في دراسة الجمهور. الأطروحة التي ترجمها وقدم لها الباحث السوري هاشم صالح في طبعتها العربية الثالثة (دار الساقي ـــ 2011) تعالج إشكاليات متشابكة يمكن جمعها تحت مفصلين أساسيين: خصائص الجمهور، ومرتكزات القيادة.وإذا كان المسار الذي بلوره صاحب «حضارة العرب» (1884) يقتضي تعرية الجمهور، وتفكيك متخيله، فثمة ثنائية متناقضة تتحكم به هي الهدم والبناء. ورغم أن بعض الأفكار التي تطرق إليها لو بون، كأحد مؤسسي علم نفس الجماهير تخطاها الزمن، وما عادت من الركائز التي ترصد الجماعات البشرية ــــ أقله في المجال الأوروبي الذي تحول من كتل بشرية دهماوية إلى مجموعة من الأفراد المدركين لحقوقهم وواجباتهم، تحت راية العقد الاجتماعي ـــ فإن ذلك لا يمنع تطبيق تخريجات لو بون على جمهور العالم الثالث، وتحديداً العالم العربي؛ إذ يبدو أنه على خطى التحرر من عصر الجماهير إلى حقبة الفاعل الرقمي.
على المستوى الدلالي، ثمة اختلاف طفيف بين الجمهور والشعب. الأول يشير إلى الجمع البشري، الكامن، وغير المنتظم، الموسوم بالسواد لعدم وضوح هويته الفكرية وشخصيته السياسية... والثاني يدل على مجموعة القبائل والبطون والفروع، ما يعني التفريع والتقسيم. وهذه الخاصية لا تقتصر على لسان العرب، بل لها تمثلاتها في الوعي الغربي، قبل القرن الثامن عشر الذي شهد كبرى الثورات، ونعني الثورة الفرنسية عام 1789.
وبصرف النظر عن راهنية النظرية التي صاغها صاحب «الثورة الفرنسية وسيكولوجية الثورات»، بالنسبة إلى الدول المصنفة في دائرة العالم الأول، لا شك في أنّ أهمية أطروحة لو بون تصلح لتفكيك فوضى الجمهور في المجال العربي. على إيقاع التوهيم الإيديولوجي والديني والسياسي، يتدرّج الجمهور ـــ وفق نظرية لو بون ـــ نحو نمط من العبودية المختارة، والهدامة. وهو في غالبية الخلاصات التي توصل إليها منذ أكثر من مئة عام، يؤكد توافر خصائص محرّكة للجماهير، من بينها سرعة الانفعال والتأثر والتعصب واللاوعي في التحرك.
وطبعاً، توهيم الجمهور على المستويين الديني والسياسي يحتاج إلى قيادات تلجأ هي الأخرى إلى أدوات ومؤثرات، تجيّش بها كل تجمّع، وخصوصاً أنّ الجمهور، كما خلص لو بون، عاجز عن التفكير «المتعقل»، ولا يملك الروح النقدية. ما يؤدي إلى إنجذابه إلى الجوانب الأسطورية (الأسطورة لا ترمز إلى البعد الديني فحسب، بل لها مرتكزاتها التاريخية على الصعيد السياسي) المولّدة للأوهام، أو الآراء التي يشكلها المتخيل الجمعي.
وبما أنّ الجمهور لا ينفصل عن رأس القيادة، الكاريزمية والتوهيمية في الغالب، حدّد لو بون أهم النقاط المؤثرة في تأطير العلاقة بين الطرفين: للكلمات الرنانة سطوتها، وللأوهام حضورها الأسطوري، على اعتبار أن الجماهير غير قادرة على استيعاب الحجج العقلية. الخطاب العقلاني لا يجذبها؛ لأنها في اللاوعي تفضّل كل ما هو وهمي وفوضوي. لذا، «فإن محرّكي الجماهير من الخطباء، لا يتوجهون إلى عقلها، بل إلى عاطفتها، فقوانين المنطق العقلاني ليس لها أي تأثير فيها». هذا ما استنتجه الكاتب، ولعل ما قاله يسعفنا في فهم فوضى الوعي لدى الجماهير العربيّة، الخاضعة لتأثيرات لخطاب الديني من جهة، والخطاب السياسي من جهة أخرى. هل ينذر الحراك الثوري الرقمي في العالم العربي، والحالة تلك، بانقضاء عصر الجماهير؟ أم أنّ ما يجري يدشّن لمشروعات التفكيك المذهبي والاثني؟
إذا كان الجمهور وفق قراءة لو بون غير عقلاني، فمن هو السيد الذي يحركه؟ وما هي الوسائل التي يجب أن يمتلكها القائد في خطابه؟ كل جماعة غير منتظمة لا تنتمي إلى الدولة، لا يمكنها الاستغناء عن السيد، ووجود السيد يعني أنّ هناك مالكاً ومملوكاً، وأن هذا الأخير (المملوك) يحتاج إلى الانبهار بالأفكار الصادرة عن القادة... وهؤلاء ليسوا «في الغالب من رجال الفكر»، كما خلص الكاتب، بل «رجال ممارسة وانخراط» يعززون حضورهم لدى الجمهور، عبر ثلاثة محركات: «التأكيد، التكرار، العدوى». وهذه الثلاثية تقتضي توافر ما يسميه لو بون «الهيبة الشخصية» أو «الكاريزما». والأشخاص الذين يمتلكون هذه الخاصية يمارسون «سحراً مغناطيسياً على أولئك الذين يحيطون بهم».
يدعم صاحب «سيكولوجية الاشتراكية» فرضيته بشأن القيادة الكاريزمية ومدى تأثيرها على الجمهور، بأمثلة تاريخية. يذكر على سبيل المثال نابليون وجان دارك وبوذا والمسيح ونبي الإسلام. بطولية هؤلاء تكمن في هيبتهم الشخصية، وقدرتهم على الإقناع، وهم بهذا المعنى آلهة وأبطال، ولا يجوز مناقشة أفكارهم لأنّ النقاش والنقد يساهمان في تلاشي الأفكار السياسية والدينية واضمحلالها.
أطروحة لو بون، لا تطاول خصائص الجمهور والقادة من منظور علم النفس الاجتماعي فقط. بعدما فكك ماهية الجمهور والمواصفات التي لا بد للقائد من التمتع بها، قسّم فئات الجماهير المختلفة إلى قسمين: جماهير غير متجانسة (جماهير الشارع، والمجالس البرلمانية)، وجماهير متجانسة (الطوائف والزمر والطبقات).
أربع حقائق يمكن استنتاجها بعد قراءة «سيكولوجية الجماهير»، أولها أنّ الجمهور لا يمكن إقناعه بأي إيديولوجيا، أو فكرة، بالاعتماد على الوسائل العقلية. كذلك فإنّه يفضّل مخاطبته بلغة الصور والإيحاء والشعارات. وهو لا يمكنه أن يتحرك من دون قيادة. وأخيراً هناك تبادل الوهم السياسي والديني بين القاعدة ورأسها. لكن الأهم من هذه الرباعية، غياب العقلانية وتحرك الجماهير على أساسها. حتى الأفراد غير العاديين، أي المفكرين والعلماء، ليس بمقدورهم مقاومة سحر الجماهير إذا انخرطوا معها.
أطروحة «سيكولوجية الجماهير» يمكن الركون إليها في دراسة العالم الثالث، لا المجتمعات الحديثة التي خرجت من عصر الجماهير، وتدرجت باتجاه الفردانية والعلاقة المباشرة مع مؤسسات الدولة. وهذا الخروج لا يعني موت الإيديولوجية في الغرب، فالرأسمالية الجديدة ترتكز على منظومات استبدادية، وتمارس أشد أنواع القهر مع اختلاف الأدوات والشروط، ولا تقل ضراوة عن التوهيم الذي يمارسه السلطان الديني والسياسي.