صوت آت من بعيد، عبَرَ في طريقه إلينا، أوديةً وصحاري وحروباً ومذابح وفتناً ومنافي. إنه حسب الشيخ جعفر (1942)، سليل ذلك الحزن الجنوبي العريق الذي أنجب شعراء من طينة السيّابوسعدي يوسف. لم يتغيّر شعره كثيراً، ما زالت «نخلة الله الوحيدة» تملأ ليل غربته الطويل بالنواح... ازدادت الندوب، تجوهرت الغنائيّة، وبقيت الكوّة التي تطل منها القصيدة على العالم: جسراً بين أزمنة غابرة تحملها الاسطورة واللغة والحكاية... وحداثة طبعت جيل الستينيات في الثقافة العراقيّة، وميّزت ميله إلى التجريب والقطيعة مع السائد. نسمة الجنوب إيّاها، تلفحنا ونحن نقرأ ديوانيه الجديدين عن «دار المدى»: «تواطؤاً مع الزرقة» و«أنا أقرأ البرق احتطاباً» (تصميم ريم الجندي). الأوّل استئناف لأسئلته الوجوديّة، واحتجاجه المكتوم، ورؤياه الحلميّة، عبر قصائد قصيرة مشرّعة على الكشف والتجلّي. والثاني رهان طويل النفس، ضمن قالب صارم يناقض اشتغاله على التدوير الإيقاعي. متتاليات ثلاثيّة موقّعة، تغرف من الفصاحة والفلسفة والنفس الحكمي والهايكو: «من أين كالضيف المعرّي/ كالطيف مرتدياً أكاليل الثلوج/ والبنتُ، في الملهى تُطيل يدَ التعرّي؟». مترجم بوشكين وماياكوفسكي كلّه هنا. بمراجعه الثقافيّة، وخلّانه التائهين، ونفَسِه الكربلائي، وغربة أزليّة ورثها عن التوحيدي ربّما. صاحب «الفراشة والعكّاز» الذي مُنعتْ باحثة من دراسة شعره في جامعة عراقيّة لأنّه «يمجد الحياة واللذة الدنيوية»، لم يشف من حاجته المزمنة إلى عزاء: «أنا أعرف أني مهجورٌ/ مُلقى للريح الجوّابه/ خيطاً تتلمّسهُ الجنيّةُ في الغابه/ بعد استرجائكِ نظرةَ حبّ من/ عينيّ الجائعتين...».