شهدنا في الفترة الأخيرة تطوّر فنون الرسم على جدران الساحات العامة في المدن العربية التي رافقت الاحتجاجات والثورات. فنون تُرجمت عبر الغرافيتي والاستنسل، أو حتى بما يوحي بالتجهيزات الفنية التي أُنجزت على الحواجز والجدران التي استحدثت لفصل الشوارع والأحياء. في مقهى Em Chill في منطقة مار مخايل (بيروت)، عُرض أخيراً بعض أعمال الاستنسل التي رشها التشكيلي اللبناني سمعان خوام على ألواح خاصة للعرض. كذلك قدمت صور فوتوغرافية التُقطت لجدران بيروت المزدانة برسومات غرافيتي، مع ذكر لموقعها في المدينة. كذلك، فالأعمال المقدمة لخمسة تشكيليين عرب ضمن معرض Melting Pot في «غاليري أيام»، ليست بعيدة عن التأثر بتلك الظاهرة التي اكتسحت شوارع العواصم العربية. يشكّل السوري عبد الكريم مجدل البيك (1973) لوحاته مستخدماً الفحم، والجص، والرماد. أعماله تستلهم جدران دمشق، إحدى أقدم المدن في العالم التي تنطق بغرافيتي وشعارات ونقوش متراكمة على مر السنين، ومحمّلة بقصص كثيرة. كذلك، فلوحات مجدل البيك تعج بالطبقات حيث تتكدس تلك المعالم، والرموز، والإشارات، مجسدة هوية غير مروية للمدينة. كذلك، ينطلق أسامة دياب (فلسطين ــ 1977) من تأثره بالغرافيتي، والمواقف السياسية/ الاجتماعية التي يضمّنها في أعماله. هنا رسم جديد لمنحوتة La Pietà لمايكل انجيلو، حيث المسيح الملقى على حضن العذراء ملثم بالكوفية الفلسطينية. وفي خلفية الرسمة، ورق جدران بنقوش الزهور يمتد إلى العمل الآخر الذي يحمل عنوان «تباين». والأخير عبارة عن لوحات ثلاثية تظهر ثلاث نساء. في الوسط، نرى امرأة محجبة سترت عينيها برقعة قماش، وإلى يمينها ويسارها امرأتان سافرتان، أغمضتا عينيهما بقطع الكيوي والخيار. بين الرسم الأقرب إلى الصورة الرقمية (يخال المشاهد أنه يرى جزئيات اللوحة) والرسائل السياسية المباشرة التي تضمنّها العمل، تقترب لوحات دياب أكثر إلى محاكاة أسلوب مختلف من الكاريكاتور. مقاربة الرسم عبر أسلوب الصورة الرقمية، يتواصل أيضاً مع أعمال السوري إلياس ايزولي (1976). لكنّه هنا يضيف إليها نفحة تأثره بـ«البوب آرت». يستند ايزولي إلى اللون الرمادي في لوحاته الأربع المعروضة ضمن «الوعاء الذائب». بورتريهات متشابهة في الرسم الأساسي تبدو كأنها عولجت من خلال برامج رقمية، فتمت إضافة الألوان، وتعديل «الكونتراست»، والإضاءة... لكنّ كل ذلك تم رسماً باليد. أما الأردنية هيلدا هياري (1969) فتعتمد على وسائل متعددة، لتقدم لوحات أشبه بالـ«باتشوورك» (خليط مرقّع)، حيث النسيج، والزخرفة، والطلاء تصوّر مجتمعةً بورتريهات لنساء أشبه بالفنون الاثنية الأفريقية.
مع اختلاف الأعمال المقدمة، والوسائط المستعملة، والمقاربات الفنية، قد تكون أعمال اللبناني وليد المصري (1979) الأكثر إثارة للاهتمام. على اللوحة الأولى، قام المصري برش القسم الأعلى منها نقشاً لكرسي، مستنداً إلى تقنية الاستنسل، ومستخدماً ألواناً مختلفة، أبرزها الأبيض، والأزرق والأحمر، والأسود... كذلك فعل في اللوحة الثانية، مع إحداث فرق في نقشات الكرسي، وتكرار النقش بشكل مزدوج. لم يقم المصري بتأسيس اللوحة قبل الرسم عليها، بل استخدم الألوان مباشرة على الكانفاس، وترك الألوان تتساقط خارج نقش الاستنسل على الكانفاس، ثم أعاد رسم بعض الخطوط بريشته الخشنة.
لكنّ المصري طوّع فن الاستنسل في لوحته لينتج لغته الخاصة. بالطبع، ليس جديداً استخدام الاستنسل ضمن اللوحات. لكن عبر السماح للألوان بالخروج من الإطار المحفور للنقش، أعطى المصري حياة جديدة للنقش. هكذا تصبح التفاصيل خارج إطار النقش أبلغ من النقش بحد ذاته. أما خيار عدم تأسيس اللوحة، فيحيلنا على المادة الخام التي يُرش عليها الاستنسل، أكانت حجر الجدران في الشارع أم الكانفاس في اللوحة، كما هو حاصل هنا. والأهم أنّه بذلك يعيدنا إلى أولى محاولات الفن المعاصر في مساءلة الرسم التقليدي. كان ذلك يتم قصداً عبر تمزيق الكانفاس مثلاً، بهدف مساءلة الوسائط الفنية، والخدع البصرية الفنية... هكذا، يسائل المصري موقع الاستنسل في المكعب الأبيض لصالة العرض. لا يلجأ إلى خداع تجميلي للمادة المعروضة، بل يدعو الاستنسل إلى التفاعل مباشرة مع قماش الكانفاس بدلاً من حجر الجدران، خالقاً لمادته وتفاعلها مكانة جديدة لا تحاول إعادة استنساخ أو نقل ما في الشارع إلى داخل صالة العرض، بل تطرح مقاربة فنية خاصة.

Melting Pot: حتى 31 تموز (يوليو) ـــ «غاليري أيام» (عين المريسة ـــ بيروت) ــ للاستعلام: ٣٧٤٤٥٠/01



بانكسي والآخرون

إن أهمية الطرح الفني الذي يحتويه عمل وليد المصري يكمن في الخيار الذي اتخذه في مقاربة فن الاستنسل. منذ فترة، بدأنا نشهد خروج فنون الغرافيتي والاستنسل من الشارع لتجد مكانها في صالات العرض، والمزادات العلنية. وقد يكون المثال الأبرز على ذلك بيع أعمال البريطاني الشهير بانكسي بملايين الدولارات بعدما تم نزعها من الشارع. وهناك أمثلة كثيرة أخرى على ذلك، وقد يطول النقاش حول تلك الحركة بتأثيراتها الإيجابية والسلبية على فن الغرافيتي، ودوره، وموقعه. لكن من المؤكد أن تلك الحركة بمنحاها الفني والتجاري الذي تفرضه السوق الفنية، قد أثرت في الفنانين التشكيليين. وهذا ما نشهده بوضوح في «الوعاء الذائب» وغيره الكثير من المعارض.