في واحد من أعماله المبكرة بعنوان «دُمى مفككة» (1969)، يمكننا أن نجد «فنّ» أسادور كله تقريباً، أو لنقل الخامات والمواد الأولية التي ستحضر في أغلب أعماله، وستجذب في الوقت نفسه عناصر وتفاصيل جديدة منجزة بالروحية ذاتها، روحية الإنسان المعذَّب والمهدد بالانحلال والتفكك والحروب والموت. الإنسان، بحسب الفنان اللبناني، هو دُمية الحياة المعاصرة التي تطحن البشر في سلسلة من التراجيديات التي لا تنتهي، والرسم يبدو مثل ترجمة لأسئلة وجودية وفلسفية تتجاوز ما هو موجود في لوحاته وأعماله إلى قلق الوجود ورعب الاستمرار في العيش. هناك مفاهيم وخُلاصات من هذا النوع، تتدخّل في شغل هذا الفنان الذي ولد في بيروت (1943) وتتلمذ على بول غيراغوسيان لفترة، قبل أن يحصل سنة 1961 على منحة للدراسة في إيطاليا، ومنها إلى المدرسة العليا للفنون الجميلة في باريس، حيث لا يزال مستقراً حتى اليوم.
برع أسادور في فن الحفر إلى درجة أنه صار يجاري نفسه داخل تقنيات وممكنات هذا الفن، وتحولت التحديات اليومية المتتالية إلى بحث غير مباشر عن الكمال. تحدياتٌ جعلت الفنان نفسه أسير فكرة «لانهائية» اللوحة أو العمل الفني. توصيفٌ كهذا لا تكفّ أعماله عن تعزيزه، ونحن نتجول في معرضه الضخم الذي افتُتح أمس في «متحف سرسق». أكثر من 100 عمل موزعة على خمس مراحل، تبدأ من الستينيات وتنتهي بالزمن الراهن، مع تقسيم موازٍ للتغير الذي حدث في التقنيات والألوان والموضوعات. إلى جانب ذلك، تُعرض مواد أرشيفية ومنشورات ودفاتر فنية سبق أن صدرت بنسخ محدودة، ومعها عرض فيديو لمقابلة أجراها الناقد جوزيف طراب مع أسادور قبل المعرض بفترة قصيرة. المعرض بهذا المعنى بدا مثل معرض استعادي، وشكل حدثاً فنياً لناحية أنها أول مرة يحضر فيها الفنان بهذه الحفاوة والمساحة.
في لقائنا القصير معه قبيل الافتتاح بساعات، بدا أسادور أقرب إلى تلك الكائنات القلقة والمطحونة التي نجدها في أعماله. سألناه: ماذا تريد أن يُرى في أعمالك؟ فقال: «إذا لم أرسم، تصبح الحياة فارغة. إذا لم أرسم، سأفكر. وإذا واصلت التفكير سأجنّ. لذلك أرسم محاولاً أن أخلق للحياة نوعاً من المنطق». يصمت قليلاً، ويضيف: «الرسم أنقذني». بحسب هذا القول، تبدو أعمال أسادور مثل تعاويذ أو تمائم لتفادي رعب الوجود والتخفف من الآلام غير المحتملة للكائن البشري. الفنان الذي أنجز دمية مفككة في بداياته، استمر في هذه المناخ السوداوي والكارثي، مقرّباً فنه من نصوص وأفلام وفلسفات حفرت في السياق نفسه. لعل هذا ما يبرر إحساسنا أننا أمام مادة «عالمية» أو مادة ناجية من الهوية المحلية، إذْ لا تتوقف أعمال أسادور عن بث انطباعات غير مرتبطة بذاكرة معينة أو مرجعية واضحة ومحددة. حين نسأله عن هذا، يُعيد جزءاً من ذلك إلى أن لبنان (مكان ولادته) في الأساس هو مساحة مفتوحة على العالم، وأنه بعد ذلك عاش في أماكن وثقافات متعددة، وأنه لم يركز في عمله على الهوية الضيقة بقدر انشغاله بحضور الفرد داخل مطحنة بشرية أوسع. لا يتحدث أسادور كثيراً، بل يمكن القول إنه يجد صعوبة في الكلام عن تجربته، تاركاً المجال لأعماله التي يبدو أنها «تتحدث» أكثر منه، وهي تفاجئ المتلقي فعلاً بنوعية الانطباعات التي تثيرها وكميتها. هناك سلسلة من التأويلات التي يمكن اقتفاؤها داخل التأليف الشكلاني والمضموني لهذه الأعمال. سلسلة تبدأ، كما أشرنا، بالجسد المفكك، ثم تستمر بتفكيك أي بنية أو مادة أو مشهد أو هيكلية أخرى. التفكيك لا يبقى في معناه القاموسي بالطبع، بل تتم زحزحته بحسب العناصر أو المناخ الذي يحضر في اللوحة، ويمكنه أن يكون «أبواباً وأشياء بلا فائدة»، بحسب عنوان حفرية تعود إلى عام 1971، ويمكن أن تكون «أشياء وركاماً»، وهو عنوان حفرية أخرى في عام 1974. والواقع أن هذه الرؤيا «اليبابيّة» تحظى بنكهة ريادية إذا ربطنا حضورها المبكر والكثيف بمفهوم «الأرض اليباب» الذي طرحته قصيدة ت. س. إليوت الشهيرة. أسادور هو أحد الأبناء الأبرار لهذا العالم الذاهب إلى خرابه. ستتواصل تلك السلسلة في السنوات التالية، ويتحول «التفكك» من عارضٍ إلى مرض عضال وميئوس منه تقريباً. ستتعزز التأليفات الميكانيكية والهندسية في أعمال أسادور التالية. سيبدأ مرحلة أخرى في إدخال اللون إلى محفوراته، وفي إنجاز لوحات بالألوان المائية والغواش والأكريليك والزيت، ولكن ذلك لن يغير كثيراً من عوالمه القيامية والجحيمية المرتبطة بأهوال العيش في المدينة المعاصرة، حيث الإنسان معرّض لموجات متعاقبة من العنف والمجازر حتى لو كانت غير حاضرة كانعكاس مباشر. لا يقدم أسادور فناً خطابياً، لكن تجنّبه الوسواسي لأي غنائية في تجريداته، وتحاشيه لأي رخاوة أسلوبية في حفرياته، يجعلان أعماله وحدها خطاباً متكاملاً ورؤية شخصية. يقول أسادور إنه «يفضّل أن يرسم أكثر مما يريد أن يُفهم»، وحين نسأله عن العنف أو الشراسة الموجودة في تأليف أعماله، يُعيد السبب إلى كونه تخصص في الحفر. «الحفر عموماً فيه قسوة وخشونة»، يقول، مشيراً إلى أن هذا لا يصعّب عليه أن يكون «ناعماً» و«صقيلاً»، كما أنه لا يرغب أصلاً بأن تُظهر أعماله عاطفةً زائدة وساذجة.
تجربة معاصرة وشديدة الراهنية لأنها تتغذى على الوجود البشري الهش

الانطباع المعدني أو الآلي يقوى أكثر كلما تقدمت أعمال أسادور في الزمن، وخصوصاً في الأعمال العائدة إلى سنوات التسعينيات والألفية الجديدة، حيث تتجاور العناصر الشكلانية والأدواتية مع حضور بشري من النوعية نفسها. المثلثات والمربعات والخطوط الهندسية تحوم وتتلاطم في فضاء اللوحة، متقاطعةً مع كائن أو كائنات آلية وهندسية مثلها. حركة الكائن فيها شيء من الروبوت أو المانيكان المعاصر، ولكن أسادور يُدخل إلى هذا التأليف تأثيرات مدهشة من الفن الفرعوني والرافديني، وأيضاً من خلاصة مشاهداته للفن البوذي ولنتاجات فنية من حضارات أخرى قديمة في أميركا اللاتينية. ويظهر ذلك في حضور «القناع» مثلاً، وفي تسرّب حركات وإيماءات طقسية مجلوبة من التماثيل البوذية إلى أجساد كائناته. الخليط الذي تنتجه هذه التسربات والأقنعة لا يُختزل في التداخل الفني أو الحضاري فقط، بل في الثراء البصري والأدائي الذي تمنحه لحفريات الفنان.
الكائن الآلي والتأليف الهندسي يستدعيان المعلم الروسي كازيمير ماليفيتش (1879 – 1935) الذي لا يُخفي أسادور تأثيره عليه، لكنه يرى «أن جزءاً كبيراً من هذا التأثير تحول مع الممارسة إلى مقتنيات شخصية تقريباً». يقول إن ماليفيتش غالباً ما يطلّ وهو منهمك بواحدة من حفرياته. «ماليفيتش يُعيد إليّ لحظة توازن أحتاجها في تلك اللحظة»، ويضيف أن مشكلته تبقى في إحساسه بلانهائية أي عمل يُنجزه. «اللوحة تنتهي غالباً لأنها مرتبطة بمعرض، ولو ظلت عندي لاشتغلت وعدلت فيها باستمرار». مثل ماليفيتش، تبدو تجربة أسادور كأنها قادمة من المستقبل وليس من الماضي. إنها تجربة معاصرة وشديدة الراهنية لأنها تتغذى على الوجود البشري الهش في العصر الصناعي والحضارة الإلكترونية. مع ماليفيتش، سنجد بقايا من اليوناني جورجيو دي كيريكو، وإيحاءات بعيدة من الأميركي روبرت روشنبرغ. ستساعدنا عناوين لوحات أسادور في تعزيز هذه الانطباعات التي يمكنها أن تبدأ من حفرية «مصيدة قوس قزح» (1974)، حيث نرى بدايات التأليف الميكانيكي ومعاينة الخراب الداخلي للإنسان المعاصر، ويمكنها أن تستمر في عمل مفصلي هو «بتوقيت غرينتش» المؤلفة من عناصر معدنية وهندسية باردة وحيادية، وتستمر أيضاً في الأعمال التي تطل فيها كائنات بشرية بروحية هندسية وآلية، إلى أن نصل إلى عمل بعنوان «منظر معدني» (2015) يبدو مثل خلاصة لرؤية الفنان وتقنياته التي يسعى فيها إلى إحلال «المنظر المعدني» محل «المنظر الطبيعي» التقليدي.
أسادور بطريقة ما هو «بطل» أعماله. بطل مضاد وسلبي وطبعاً. إنه ذاك الكائن الهش الذي يواجه هول الوجود. الرسم بالنسبة إليه هو دفاع عن النفس ودفاع عن المزاج. مزاجه خشن، ولذلك يقول: «أحببت بيكاسو وليس ماتيس، ماليفيتش وليس بونار». إنه منحاز إلى فوران وحركية ما داخل الرسم. عنوان معرضه «منظر متحرك» يعزز هذا الانطباع فعلاً. لعل الحركية والخشونة آتيتان من تقنيات الحفر كما يقول، لكن كل ذلك يترجم «حركية» الكائن البشري داخل المتاهة المدينية والحضارية القاسية. ليس بلا دلالة أن نرى في المعرض عملاً بعنوان «مدينة مجهولة» تحتشد فيها غابة من الكونكريت والمعدن، وعملاً بعنوان «رسالة إلى معماري مجهول» لا تحوي سوى دوائر ومثلثات وأجزاء مفككة ومعطوبة. كأن أسادور يفكك ويبني باستمرار للوصول إلى مكان العطب في «الأرض اليباب» التي يقيم فيها.

* «منظر متحرّك» لأسادور: حتى 30 أيار (مايو) ـــ «متحف سرسق» (بيروت) ــ للاستعلام: 01/201892
ندوة اليوم 16:30 بعنوان «بين النظام والفوضى» تجمع أسادور والناقد ومنسّق المعرض جوزيف طراب