القاهرة | كان فيلم «درب المهابيل» من إنتاج «أفلام النجاح»، إلا أنه حقّق فشلاً ذريعاً في شباك التذاكر. كانت «أفلام النجاح» تجربة إنتاجية لضابط جيش متقاعد وثري، عرّفه الروائي الصاعد نجيب محفوظ على الشاب المتحمس العائد من فرنسا توفيق صالح. وافق المنتج على المغامرة شرط أن يكتب الحوار عبد الحميد جودة السحار والسيناريو لمحفوظ وصالح. لكن ذلك لم يسعف الفيلم. كانت الخمسينيات حقبة الفشل الجماهيري للأفلام الطليعية. عرف يوسف شاهين فشلاً أشد مع «باب الحديد»، لكن شاهين، ومحفوظ مع صلاح أبوسيف، واصلوا طموحهم بإصرار حتى عرفوا النجاح الكاسح. أما توفيق صالح، فظل لغزاً إلى يومه الأخير، أمس.طلب توفيق صالح أن يدفن بجوار محفوظ، ليس ذلك لأن محفوظ شريك فيلمه الأول، بل لأنّ صالح اشتهر أيضا بوصفه أحد أهم حرافيش محفوظ مع الفنان أحمد مظهر، شركاء الجلسات المحفوظية القاهرية الشهيرة.

بعد فشل «درب المهابيل» الذي حوّل عميد الرواية فكرته الفلسفية إلى قصة حارة شعبية، تفرغ صالح لصنع أفلام تسجيلية عن «كورنيش النيل» ( 1956) و«فن العرائس» (1957) إلى فيلم عن اللاجئين الفلسطينيين (من نحن؟ ـ 1960)، قبل أن يخوض تجربته الروائية الثانية «صراع الأبطال» من إنتاج عزالدين ذو الفقار، وتأليف مجموعة تكوّنت من ذو الفقار وعبد الحي أديب ومحمد أبويوسف وصبري عزت بالإضافة إلى صالح نفسه. أما القصة فذات بُعد ستيني بامتياز، عن المرض والدجل والفلاحين ومحاربة الإقطاع، لم يكن محفوظ في التجربة لذا غاب الملمح الفنّي الفلسفي لصالح «الأفكار التقدمية».
سريعاً، تعلّم صالح من التجربة فعاد إلى الرواية والروائيين، فيقدم «المتمردون»( 1966) عن قصة لصلاح حافظ، و«السيد البلطي» ( 1967) عن رواية صالح مرسي، ثم «يوميات نائب في الأرياف» ( 1968)عن رواية توفيق الحكيم، ثم ينتقل إلى سوريا ليصنع «المخدوعون» ( 1972) عن رواية غسان كنفاني «رجال في الشمس» (إنتاج المؤسسة العامة للسينما). لكن الرواية الأسوأ التي اشتغل عليها توفيق صالح، هي «الأيام الطويلة» للعراقي عبد الأمير معلة، ليخرجها أثناء إقامته في العراق بطلب من صدام حسين. فيلم «الأيام الطويلة» (1980) يحكي قصة هروب صدام حسين من السجن بعد اغتيال عبد الكريم قاسم، ومن بطولة صدام كامل، الذي صار في ما بعد زوج ابنة «الزعيم»، قبل أن يُقتل إثر حادثة انشقاقه الشهيرة منتصف التسعينيات. لقد فضّل صالح –وفضّل النقاد- أن يُحذف الفيلم الأخير من مسيرته الفنية، لكن لماذا لم يصنع المخرج الهام المقلّ أفلاماً أخرى؟
ظل ذلك لغزاً رغم أن صالح أجاب على هذا السؤال في كل لقاء صحافي في الأعوام الثلاثين الأخيرة من حياته، فكان يتكلم عن مشاريع لم تكتمل أبداً، وإن بدا أنه اكتفى بعمله كأستاذ إخراج غير متفرغ في معهد السينما في القاهرة، كان من المدهش أن فترة توقفه عن صناعة الأفلام (33 عاماً من 1980 إلى 2013)، تفوق فترة نشاطه السينمائي (25 عاماً من 1955 حتى 1980).
وأياً يكن تفسير صالح لامتناعه عن صناعة الأفلام كل هذه السنوات، تبقى الحقيقة أن أربعةً من أفلامه الروائية السبعة، أي أكثر من النصف، قد اختيرت من بين أهم مئة فيلم عربي على الإطلاق، وتلك بالتأكيد نسبة لم يحققها غير توفيق صالح.