لا يضجر صلاح صولي (1962) من ذهابه إلى الحرب الأهلية وإيابه منها. أرّخ الفنان اللبناني جوانب غير موثّقة للحرب وتأثيرها المباشر وغير المباشر في المدينة والبشر. اشتغل على خطوطها العريضة في عدد من معارضه ومشاريعه التجهيزية، وعاين تفاصيلها الجانبية والصغيرة في بعضها الآخر. الحرب هي موضوع أساسي في تجربته كمواطن ينتمي إلى بلد عاش حروباً أهلية وغير أهلية، وكفنان لم تتكفل سنوات السلم الهش بنجاته من ندوب الحرب المرشحة دوماً للتقيح والنزف في مجتمع يرفض العلاج. بالنسبة إليه، الزمن اللبناني لا يتغير تقريباً، ولذلك فهو مادة خصبة بالمعنيين الإيجابي والسلبي للعمل على فكرة الحرب كذاكرة لمجتمع لا يجد فرصة كافية للتذكر طالما أنّه مهدد بتكرار الماضي وخائف من المستقبل.
عمل صولي على أفكار أخرى طبعاً، لكنه سرعان ما كان يجد مادةً جديدة لا بد من إضافتها إلى الأركيولوجيا الشخصية التي صنعها بمشاريعه وأعماله المتتالية عن الحرب. ما يعرضه حالياً تحت عنوان «زمن الخفاش الأزرق» في «غاليري أجيال»، هو طبقة جديدة في هذه الحفريات التي يعود فيها الفنان إلى أحداث عام 1958 التي تجددت بطبعة أعنف وأطول بعد 17 عاماً. المعرض هو نوع من التجهيز أو الفن المفهومي. كأن صولي ينقّب هذه المرة في زمن أقدم من الزمن الذي يشتغل عليه عادةً، لكنه لا يحتاج إلى مبرر كي ينفذ منه إلى زمن يعرفه أكثر. المعرض انتقالٌ بين زمنين، وصلة وصل بين جيلين أيضاً. البداية كانت في عثور صولي بالصدفة على أوراق وقصاصات كان والده الراحل قد أرشفها واحتفظ بها من تلك الحقبة، بينما العنوان مستلهم من الاسم الذي أُطلق على عملية إنزال جنود المارينز على الساحل البيروتي حينذاك. القصاصات الأولى كانت بمثابة فكرة أولية لمشروع متكامل تم إنجازه على شكل ريبورتاج صحافي يمكن أن يُعرض على الجمهور بدلاً من قراءته مكتوباً. القصاصات والصور الأولى أدت دور المغناطيس لجذب مثيلاتها. لم يكن الفنان يحتاج إلى أكثر من ذلك كي يتورط مجدداً في موضوعه الأثير. أنجز مقابلات مع مقاتلين شاركوا في تلك الأحداث، وآخرين كانوا شهوداً فقط. زوَّده هؤلاء بصور من ألبوماتهم القديمة. صور بالأبيض والأسود تُظهرهم وهم يحملون بنادقهم أمام الكاميرات، إلى جانب صور أخرى مأخوذة من أرشيف الصحف والمجلات، وصور زعماء ومسؤولين تحت مانشيتات صحف مماثلة. الصور والقصاصات معروضة داخل براويز مذهبة أو برونزية كانت دارجة وقتها. هناك طموح لدى الفنان إلى إيصال مذاق وروائح تلك الحقبة إلى المتلقي. ثمة رغبة في توريطه عبر تجديد النظر إلى ندوب الماضي. يضم المعرض 68 صورة جرى تعريضها لتدخّلات بسيطة. طُبع بعضها على صفحات الجرائد القديمة، وحُجبت بعض الملامح بلطخات سوداء. غُطيت صور كاملة بشبكة كلمات متقاطعة، ووُضعت أخرى داخل شاشة تلفزيون قديم. لم يبالغ صولي في منتجة الصور. لم يزحزح «جمالياتها» الأرشيفية من مكانها. هناك 8 لوحات بقياس أكبر قليلاً اكتفى بجمعها في مساحة واحدة كي تحظى فكرته الأولى بقوتها التجهيزية. الشغل الأعقد قليلاً مبذول في المقابلات المصورة مع 11 شخصاً ممن عايشوا تلك الأحداث. حذف صولي الأسئلة، وترك المقابلات تجري كمونولوج طويل. اللافت أنّ المقابلات لا تعرض في مساحة مخصصة لها، بل زُرعت شاشات الفيديو بين الصور المعروضة نفسها. هكذا، بدت تلك الشاشات أشبه بصور حية تتكلم، بينما بدت الصور مثل شاشات متوقفة عن البثّ. صنع صولي تبادلاً بصرياً ذكياً في وظائف وأدوار عناصر مشروعه، بينما أراح 8 لوحات بقياسات أكبر بعيداً عن «غابة» الصور والشاشات المجاورة، وهي مختلفة قليلاً في صياغاتها النهائية، وتتدخل فيها تقنيات وممارسات لونية أكثر، لكن ذلك لا يؤخر هذه «اللوحات» عن الالتحاق بالانطباع الكلي الذي ينبعث من التجهيز الذي نراه. التأويلات البصرية هي التي تصنع هذا الانطباع. صحيح أنّ المشروع قائم عل فكرة، إلا أن الهدف هو العمل على الذاكرة السياسية لحقبة معينة، وتحويل ذلك إلى مادة بصرية. توصيف مثل هذا يدفعنا إلى إزاحة صفة «الفنان» جانباً، والتحدث عن وعي سوسيولوجي يقف خلف المشروع، بينما يصبح الرسم أو الصورة ذريعةً لترجمة هذا الوعي الشقيّ والمجروح الذي يحاول ترويض الماضي الذي لا يمضي، والتصالح مع الهوية الفردية والجمعية. المعرض هو قراءة في أرشيف حرب، و«سجلّ مدينة»، بحسب عنوان معرض سابق له. هكذا، تطغى ممارسات التوثيق والتنظير على فكرة الرسم التي بدأ بها صولي تجربته، ولا تزال تظهر بجرعات متفاوتة في معارضه، بينما الإقامة البرلينية ساهمت في تعزيز هذه الطموحات التي شرّعت مخيلته على تأثيرات عالمية وعولمية متعددة.

«زمن الخفاش الأزرق»: حتى 20 أبريل (نيسان) ــ «غاليري أجيال» (الحمرا ـــ بيروت). للاستعلام: 01/345213



عن حرب لا شفاء منها


في أحد معارضه، اكتفى صلاح صولي (الصورة) بفرش أرضية الغاليري بأحذية عسكرية مستعملة، تاركاً الجمهور أمام إحدى الصور المجازية القاسية للحرب والعنف. التأثير الضاغط لفكرة الحرب جعله يقاربها بطرق مباشرة وغير مباشرة. اشتغل مرة على تغير إيقاع العيش والعمارة في مدينة عاشت الحرب، واشتغل أيضاً على تخيّل صورة بيروت المستقبلية لو أن الحرب الأهلية لم تحدث. المذاق الافتراضي تجاور وتداخل مع تفاصيل حارقة وملموسة، كما في عمله أكثر من مرة على تمثال الشهداء الشهير في وسط العاصمة، إضافة إلى معرض آخر عن مخطوفي الحرب. الحرب التي لا أمل للشفاء منها.