منذ انطلاق «طوفان الأقصى» وعدوان الاحتلال على قطاع غزّة، كان هناك شبه إجماع رسمي وإعلامي في لبنان بالوقوف إلى جانب فلسطين ودعم شعبها، بغضّ النظر عن طريقة الدعم وتفاوتها بين الأفرقاء بحسب خلفيّاتهم. من ضمن هؤلاء، خرج بضعة إعلاميّين وناشطين يدّعون مناصرتهم القضيةَ الفلسطينية، رغم أنّهم كانوا قبل «الطوفان» أبواقاً للولايات المتحدة، وهو ليس اتّهاماً تعسّفيّاً، إذ إنّهم لا يخفون علاقاتهم مع مسؤولي الإدارة الأميركية وأبرزهم سفيرتها في لبنان دوروثي شيا، وكثر منهم عملوا مع قناة «الحرّة» المملوكة للحكومة الأميركية. ما سبق يعني أنّهم دائماً ما روّجوا للتطبيع مع العدوّ وهاجموا حركات المقاومة واعتمدوا لغة انهزامية. أمور لا علاقة لها بحرّية الإعلام وهي حرّية مقدّسة، فالتطبيع تجرّمه القوانين اللبنانية ويُعتبر خيانة واعترافاً بكيان احتلال يُمعن في ارتكاب أبشع الجرائم بحقّ الإنسانية.ما بعد العدوان على غزّة والضفّة والجنوب اللبناني لم يكن مغايراً. دأب الآنفون منذ بدئه على تبنّي سردية الاحتلال حول حركات المقاومة، وباتوا مهووسين إلى درجة تركيزهم على الهجوم على المقاومة، بشكل خاصّ في لبنان لكن أيضاً في فلسطين، أكثر ممّا ركّزوا على غزّة والاحتلال وظلمه وحتّى إنجازات حركات المقاومة. رأوا أنّ الوقت مناسب لإحداث انقسام بين أبناء المنطقة الواحدة في أعظم القضايا وأكثرها حاجةً إلى التكتّل والاتّحاد، وهو ما يخدم الصهاينة بطبيعة الحال. للمفارقة، هم أنفسهم كانوا يبرّرون لأحزاب ومجموعات رأسماليّة وكومبرادوريّة ركوبها موجة تظاهرات تشرين 2019 في لبنان، بحجّة أنّ الحاجة الحاليّة في حينه كانت للاتّحاد (وفق منظورهم للاتّحاد)، على أن تتمّ معالجة الاختلافات لاحقاً. هذا ما يُظهر نفاقهم، إلّا إذا كانت ثورة ملوّنة أكثر حاجةً للاتّحاد بالنسبة إليهم، من قضيّة كلّ إنسان شريف في العالم، وهي قضيّة تعني لبنان بقدر ما تعني فلسطين، ولا مساحة للتذكير بما عاناه لبنان ولا يزال بسبب الاحتلال. هؤلاء لا تهمّهم غزّة ولا الجنوب اللبناني، فهُم نرجسيّون يريدون الأضواء موجّهة إليهم فقط، ويلعبون دور الضحية لنيل التعاطف. هؤلاء لا تجب إعارتهم أيّ أهميّة، فالتاريخ هو الذي سيحاسبُهم. لكن عندما تصل وقاحة أحدهم حدّ إقامة حملة علاقات عامّة شخصية ضخمة فوق جثث الأطفال والنساء والرجال، وحرمانهم من المساحة الإعلامية لإيصال صوت معاناتهم واستبدالها بحملة لتضخيم الذات وتبرير التطبيع بدلاً من الخجل والانكفاء، فهنا يصبح الأمر بحاجة إلى التعليق.

لم تحمِ السترة الصحافية الشهداء الثلاثة من استهداف الصهاينة (كونت حاجو ـ أ ف ب)

نتكلّم عن الإعلامية اللبنانية ليال الاختيار في قناة «العربية» السعودية، التي أقامت الرأي العامّ ضدّها لاستضافتها المتحدّث باسم «جيش» العدوّ الإسرائيلي أفيخاي أدرعي ووصفها إيّاه بـ«المتحدّث باسم جيش الدفاع الإسرائيلي» والتوجّه إليه بلقب «الأستاذ أفيخاي»، ضاربةً عرض الحائط القوانين اللبنانية التي تجرّم التطبيع مع العدوّ. اعتبرتها الاختيار «قوانين حزب الله»، رغم أنّ عمرها ربّما من ضعف عمر الحزب! ورغم موجة الانتقادات، لم تكتفِ هنا، بل عادت واستضافت المتحدّث باسم رئيس الحكومة الإسرائيلية للإعلام العربي أوفير جندلمان، وعادت واستخدمت لقب «أستاذ»! ما ارتكبته الاختيار دفع «هيئة ممثّلي الأسرى والمحرّرين» إلى التقدّم بإخبار ضدّها لدى المحكمة العسكرية التي أصدرت بلاغ بحث وتحرّ بحقّها، وهو ما حاولت الإعلامية التنصّل منه بطريقة سفسطائية والإيحاء بأنّ كلّ ما يحصل هو مؤامرة من «حزب الله»، متّهمةً أسرى محرّرين بأنّهم جزء من لعبة المحاور! تغاضت ليال الاختيار عن الرأي العام الرافض لما قامت به، وبدلاً من الاعتذار من اللبنانيّين كلّهم، بادرت إلى حصر كلّ شيء بـ«محور المقاومة»، ولعبت دور الضحية، وأقامت حملات تبرير لنفسها تحت ادّعاء «حرّية التعبير» وأنّها «تقوم بعملها» وأنّ آخرين قاموا بالأمر ذاته قبلها. ويبدو لافتاً أنّ الإعلامية نفسها كانت تعتبر القضاء «مستقلّاً» عندما كان المُستدعون في ملفّ انفجار مرفأ بيروت من حلفاء «حزب الله»، لكن عندما وصل الأمر إلى استدعائها، باتت ترى فجأة أنّ هذا القضاء بيَد الحزب، في معايير مزدوجة واضحة!
الحملة الشعبية على ليال الاختيار دفعتها إلى ادّعاء أنّ هناك مَن يريد قتلها، فنظّمت حملة علاقات عامّة مضادّة عمادها هذا الادّعاء، رغم أنّ أحداً لم يدعُ إلى قتلها، وجلّ ما حصل هو وصفها بالصهيونية ووضع صورتها مع علم الكيان الإسرائيلي فوقها. وفي حال كانت هناك فعلاً تهديدات بالقتل، فالأمر مرفوض، لكنّه في الوقت نفسه يجب أن يدعوَ الإعلامية إلى النقد الذاتي والتفكير في ما أوصل الأمور إلى هذا الحدّ، بواقعية وبعيداً عن أيّ بروباغندا أو أكاذيب تبرّر لعبها دور الضحية. حملة العلاقات العامّة هذه تضمّنت مقابلات مع وسائل إعلامية مختلفة ورسائل تضامن منها ومن جهات سياسية، إضافة إلى «وقفة تضامنية» ومنشورات مستمرّة من الاختيار والمتضامنين معها، وهم حفنة من معروفي التوجّهات السياسية، وآخرون من متابعي «العربية».
وفي حديث مع صحيفة «النهار»، حاولت الاختيار تبرير نفسها، فتكلّمت عن «استباحة الدولة اللبنانية والقوانين» (من قبل مَن تدّعي أنّهم يريدون قتلها) رغم أنّها هي التي تخطّت الدولة اللبنانية وخالفت قوانينها. برّرت تطبيعها مع العدوّ على طريقة «شو وقفت عليّي»، فقالت «غيرنا طبّع من زمان مع العدوّ وباع الكيلومترات للعدوّ ووقّع على الكيلومترات مع الأمم المتّحدة»! أي إنّها اعترفت بتطبيعها، وبرّرت الخطأ بالخطأ، كأنّ ذلك يبرّئها. وفوق ذلك، لم تشمل مع هذا الـ«غيرنا» أيّاً من الحكومات المطبّعة التي لا تنتقدها أبداً. وأكملت أنّ «غيرنا أبرم deal مع ضابط سابق في الجيش الإسرائيلي» مناقضةً ما قالته في الجملة السابقة بأنّ الاتّفاق كان مع «الأمم المتّحدة»، فهي تريد إقحام المقاومة بما قام به مسؤولو الدولة اللبنانية ولم يكن أحد منهم من المقاومة، بل هؤلاء كانوا ليتنازلوا عن كامل حقوق لبنان من اليوم الأوّل لولا ورقة القوّة التي أجهرت بها المقاومة. استنكرت الاختيار التحريض على قتلها، رغم أنّ أحداً لم يقل شيئاً سوى إنّها صهيونية، وهي، موضوعيّاً وعبر تقييم مواقفها علميّاً، صهيونية. حمّلت جمهور «الممانعة» (كما تصفها، فهي لا تستسيغ المقاومة و«العنف») المسؤولية إن تعرّضت لأذى، كأنّ أحداً لم يُتّهم بالصهيونية في لبنان قبلها من دون التعرّض له. وختمت بالقول: «مشكلتكن الأساسية مع لبنان، بدكن تعملوه بلد تاني وما رح تقدروا تعملوه بلد تاني»، فهي تريد بلداً مطبّعاً مرتهناً للغرب، وتكمل بوصف جمهور المقاومة بأنّهم «غرباء عن لبنان»! أي قامت بالأمر نفسه الذي يُفترض أنّها تنتقده، وهو التخوين، لكنّها شملت نصف شعب بلدها! هذه الجملة بحدّ ذاتها كفيلة بتأكيد صهيونيتها، فهذا هو معنى الصهيونية في القاموس. تناست الاختيار كلّ مجازر الاحتلال بحقّ لبنان وشعبه، ليس فقط في الجنوب الذي تعتبره «غريباً عن لبنان»، وتناست أنّ الاحتلال هو الذي أراد لبنان «بلد تاني»، وتناست مَن الذي دحره عن أرض لبنان، ومَن الذي ردعه على مدى سنوات، وهم بطبيعة الحال أبناء الأرض من لبنانيّين أباً عن جدّ. وفي المقابلة ذاتها، استخدمت الاختيار تعابير إنشائية عن «الحرّية»، وهي بطبيعة الحال ليست حرّيةً، بل خنوعاً لتفوّق العرق الأبيض الذي ينادي به الغرب تحت مسمّيات الحرّية، وتبيّن نفاقه وحقيقته للعالم في الأسابيع الماضية. وبدلاً من الاعتذار، أعادت التبرير بأنّ محطّتها طلبت منها (إذا طلبت منها القناة القفز في قفص أفاع، هل تفعل؟) وبأنّ غيرها قام بالتطبيع.
اتهمت الإعلامية في قناة «العربية» السعودية أسرى محرّرين بأنّهم جزء من لعبة المحاور


من ضمن الحملة، أصدرت قناة «العربية» بياناً أضحوكة تعلن فيه تضامنها مع الإعلامية، قائلةً إنّ «ما تتعرّض له الاختيار اليوم هو بمثابة استهداف للصحافة وقيمها، وكذلك للنهج الإعلامي المهني، والتغطيات الإخبارية المحترفة والمتوازنة» و«ما حصل هو محاولة لترويع الزملاء الصحافيّين للحيلولة دون تقديمهم حوارات مهنية وتغطيات متوازنة». قد يُصدّق بيان مماثل لولا سجلّ «العربية» الحافل بالانحياز وعدم الموضوعية وتلفيق الأخبار خدمةً للنظام الذي يملكها وحروبه العبثية، وهو للمفارقة النظام ذاته الذي يسجن ناشطين بسبب منشور ويضيّق على الصحافيّين وصولاً حتّى قتلهم ولو كانوا من زمرته، كما الصحافي جمال خاشقجي. أداء «العربية» كان قد وُضع تحت المجهر في الأسابيع الماضية بسبب تغطيتها المنحازة إلى الكيان العبري واعتمادها سرديّاته في الكثير من الأحيان («الأخبار» 1 تشرين الثاني 2023). الكرزة على قالب الحلوى كانت من صنع تجمّع «إعلاميّون من أجل الحرّية» الذي نظّم يوم الثلاثاء الماضي وقفة تضامنية مع ليال الاختيار في ساحة سمير قصير في بيروت بحضور عدد من الإعلاميّين والسياسيّين الذين يدورون في فلك «14 آذار»، في وقت كان فيه فريق «الميادين» الإعلامي يتعرّض لاستهداف من العدوّ، ما أسفر عن استشهاد المراسلة فرح عمر والمصوّر ربيع معماري ومساعدهما حسين عقيل.

الكرزة على قالب الحلوى تمثّلت في «إعلاميّون من أجل الحرّية» الذي أقام وقفة تضامنية في ساحة سمير قصير

محاطاً بشعارات مثل «صفر خوف» و«التخوين تمهيد للاغتيال»، تلا الإعلامي أسعد بشارة بياناً باسم «التجمّع» وصف فيه بلاغ البحث والتحرّي الصادر بحقّ الاختيار بـ«العار ووصمة سوداء إضافية في سجلّ المحكمة العسكرية». وبكلّ وقاحة، جاء في البيان أنّ «الاختيار أدّت المهمّة التي يمليها عليها عملها في قناة «العربية»، وهي مهمّة يؤدّيها، مشكورين، إعلاميّون لبنانيّون كثر في القناة نفسها وفي القنوات العربية الأخرى. والهدف نقل الحقائق بالصورة والصوت والتحليل من غزّة الجريحة، ومن كل فلسطين»! وأضاف البيان أنّه «لا يوجد جرم التعامل، ولا يوجد جرم نقل المعلومات، ولا الترويج لإسرائيل، بل كان حواراً أمام ملايين المشاهدين، وتبعاً لذلك تُعتبر مذكّرة البحث والتحرّي خرقاً فاضحاً للقانون والدستور الذي يحمي الحرّيات الإعلامية»! ولم ينسَ معدّو البيان تعليق كلّ ما ورد فيه تحت شمّاعة مناصرة فلسطين، قائلين «لقد استهدفت إسرائيل الإعلام اللبناني، ما أدّى إلى استشهاد الزميل عصام العبدالله وجرح عدد من الزملاء، وهي جريمة موصوفة تُضاف إلى جرائم استهداف الإعلاميّين في غزّة».
هكذا إذاً، حاولت ليال الاختيار تحويل نفسها إلى قضية رأي عامّ فوق جثث الشهداء من الصحافيّين والمدنيّين اللبنانيّين والفلسطينيّين، واختلقت عدوّاً وهميّاً مساهمةً في سحب الأنظار عن المكان حيث يجب أن تكون، على طريقة الولد الذي قطع المياه عن قريته. بالنسبة إلى الاختيار، الغاية تبرّر الوسيلة، ومن الواضح أنّها لا تنوي الاعتذار من الشعب اللبناني أوّلاً والفلسطيني ثانياً وكلّ حرّ في العالم ثالثاً، بل ستبقى تكرّر أسطوانة «الحرّية» المشروخة تبريراً لأفعالها. استشهاد الإعلاميين في جنوب لبنان يوم الثلاثاء حوّلها من «بطلة» إلى مهرّجة وكشف أنّها خسرت ثقة غالبية اللبنانيّين، فيما عدد مؤيّديها اللبنانيّين هم من انتماء سياسي واحد.



فرح وربيع وحسين في مرآة الإعلام
مع بدء توالي خبر استشهاد فريق «الميادين» الذي ضمّ المراسلة فرح عمر والمصوّر ربيع معماري ومساعدهما حسين عقيل بغارة إسرائيلية استهدفتهم عمداً صباح الثلاثاء الماضي، غطّت الأخبار العاجلة مواقع التواصل الاجتماعي، فيما بالكاد غيّرت القنوات اللبنانية في برمجتها، وانتظرت نشرات الأخبار كي تنقل الحدث. ومع حلول نشرات المساء، كان الخبر قد استحوذ على الحيّز الأهمّ منها، وتسابقت القنوات على التغطية المباشرة، وذهب عدد منها إلى مقرّ قناة «الميادين» لأخذ المقابلات هناك. في اليوم التالي، تغيّر المشهد، إذ ذهبت جميع القنوات اللبنانية نحو النقل المباشر لمراسم تشييع الشهيدة فرح عمر، فيما واكبت mtv الحدث باستضافة صحافيّين في استديواتها تكلّموا عن المصاعب التي تواجه الصحافيّين في تغطيتهم للأحداث في الجنوب اللبناني، ولا سيّما الخطر الذي يشكّله كيان العدوّ بوضعهم تحت مرماه عمداً. بالنسبة إلى الإعلام العربي، كانت لافتة المعايير المزدوجة بما أنّ الشهداء من لبنان، فيما تعمّدت قناة «الجزيرة» وصفهم بـ «القتلى» بخلاف ما تصف شهداء غزّة، رغم أنّ دماء اللبنانيّين والفلسطينيّين الشهداء تمتزج على طريق القدس. ولم تعطِ القناة أهمّية للحدث، فأوردته في الدقائق الأخيرة من نشراتها، مكتفيةً بالقول إنّ «الجيش الإسرائيلي استهدف ثلاثة صحافيّين جنوبي لبنان» من دون التقدّم بتعازيها لمؤسّسة زميلة ولا ذكر اسمها أو حتّى أسماء الشهداء!