في مقابل هؤلاء الناس، أشخاص لا تُعرف هويّتهم ولا وجوههم، يخرجون من اللامكان واللازمان، يقتلون الأشخاص بشكل عشوائي، يطيب لهم تعكير صفو أولئك «الأشخاص» وحرمانهم من السهر ليلاً، وتغيير «نمط حياتهم» الذي هو خلاصة «عصور التنوير» وآلاف السنين من المغامرة الإنسانية فوق هذه الأرض، يختلّ كل شيء، وتصير تلك الجهة الآمنة بحاجة إلى تدخل يعيد طمأنينة «ليلة القدر» (عنوان إحدى روايات بن جلون) وسلامها حتى مطلع الفجر إلى أولئك الأشخاص الآمنين في بيوتهم وأوطانهم وحكوماتهم التي تسهر على حقوقهم وطبابتهم وأمنهم وحتى أمن قططهم وكلابهم وكل حيواناتهم الأليفة والمفترسة. على المنوال ذاته ووفقاً للتعريف ذاته، اعتبر بن جلون هجمات «حماس» في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) «جرحاً يطال الإنسانية بأسرها» كما كتب في صحيفة «لوبوان» الفرنسية، و«البربرية التي لا يجد كلاماً لوصفها في قتل الأطفال والنساء، وما اقترفه مقاتلو الحركة بحق اليهود، مقاتلون هم أعداء للشعب الإسرائيلي والفلسطيني معاً وتديرهم دولة تأخذ مواطنيها من الإناث رهائن لمجرد رفضهن وضع الغطاء فوق الرأس، لا تفعل الحيوانات ما فعلته «حماس». أقولها وصوتي وحيد، وفي وحدتي وتعاستي وعاري ككائن بشري أقول إنه قتال لا يشرّف القضية، ولا لذلك التصفيق في بعض العواصم العربية. إنها تراجيديا سنحملها في ذاكرتنا كجرح للإنسانية جمعاء. جرح لا يُغلق ولا يُنسى».
اعتبر «هجمات «حماس» في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) جرحاً يطال الإنسانية بأسرها»
هل أنت حقّاً صوت وحيد «سي الطاهر» كما تقول في مقالتك؟ أليس الغرب بأسره يقول لنا هذا الخطاب منذ استعماره لبلادنا وبلادك، ومقتلة المليون ونصف مليون شهيد في الجزائر إلى الأرقام التي لن تنتهي في فلسطين، أن نحمل ذلك «الكاتالوغ» السلمي الذي في الصفحة الأولى فيه رشّ الأزهار على المحتل، وفي الصفحة الثانية تقبيل يده التي تدكنا بالرصاص والبارود والصواريخ، وفي صفحة من صفحاته عيش «أقصى درجات العزلة» في ديار ذلك المحتل كما عنونت أحد كتبك، مياومين نبني بأيدينا مستوطناته ومستعمراته، مخصيّين مذلّين مهانين. ألم تتطابق مع وزير الحرب الإسرائيلي في وصف مقاومي شعب بـ «الحيوانات»؟ هل نحن في هذه الجهة من العالم لا نرغب أن نكون «أشخاصاً» لكل منّا قصة شخصية، من اختيار خبزنا وخضرنا وفاكهتنا في الصباح، إلى ذهابنا في نزهة على كورنيش بيروت أو غزة أو وهران، إلى بكائنا على موت صديق أو فرحنا بمولود؟ أليست لنا «ممتلكات» نحرص عليها «سي الطاهر»، من ريش الطاووس في المزهرية في رواية «عائد إلى حيفا» لغسّان كنفاني، إلى حيفا كلها ويافا واللد والرملة وكل الحواضر التي احتلّها ذلك الرجل الأبيض الذي لا يحاربنا إلا لأنّ لنا وجهاً، ولنا هوية، في الشعر، والموسيقى، والتصوف، والحب، والصداقة، والكرم، والحنوّ على زيتونة كسرتها الريح، وكل فهم مغاير لما يفرضه علينا من سلعه وحواسيبه إلى صواريخه الذكية، مروراً بسوق نظرياته وأفكاره، ونمط حياته الذي هو واحدٌ أحد لا شريك له ولا نظير؟
لا يا «سي الطاهر»، لست بالصوت الوحيد، هذا الغرب بكل حكوماته وإعلامه وترسانته وأبواقه وحاملات طائراته معك، ربما يصح القول على الروائية عدنية شبلي بأنها وحيدة، ألغى لها «معرض فرانكفورت الدولي للكتاب» الاحتفاء بروايتها «تفصيل ثانوي»، لأنه ليس بالتفصيل البسيط القول إن ثمة «نمط حياة» آخر يفرضه الاحتلال والاستيطان والقهر والذل على شعب منذ 75 عاماً ولم تنفع معه كل الحلول التي يمكن أن تتخيلها، وكل أنواع العنصرية التي يمكن أن تطبّق كل نظريات كتابك الآخر «العنصرية كما شرحتها لابنتي» على ممارسات ذلك الكيان منذ تأسيسه بحق الفلسطينيين. «كان يمكن أن أكون مكان هذه الضحية»، هذا لسان حال الفلسطينيين في كل بيت في غزة «سي الطاهر». كان يمكن أن يضاف سطر صغير أو سؤال لابنتك في ذلك الحوار الافتراضي: «ماذا تفعل قطتك الوديعة حين يهاجمها مراراً وتكراراً وحش هائج». نحن أيضاً لنا أطفال ولا نرضى بقتلهم في أي مكان فوق هذه الأرض، وتدقيق صغير في الوقائع الميدانية قد يخرجك من تلك العتمة الباهرة، «يرضى القتيل وليس يرضى القاتلُ».